هروب، ملاحقة، اختفاء، اختناق، جثث. هذه الأجواء المرعبة وغيرها، تدوّنها الكاتبة التركية بيريهان ماغدن، في رواية "بيز كيمدن كاجيوردك آنه؟" (ممّن كنا نهرب يا أمي؟)، تهرب الأم مع ابنتها من أشخاص يلاحقونهما. مَن هم؟ لا تعرفان. غير أن ثمة إشارات واضحة إلى أن الخطر يتهددهما وأن هؤلاء الناس لن يتركوهما بسلام. ملاحقة جهنمية لا تنتهي، وخوف أبدي يخنق الأنفاس. في النهاية، يقتلون الأم ويشوهون جثتها، وتبقى الإبنة وحيدة في الشارع تنظر إلى جثة والدتها. نهاية مأساوية في رواية تحمل طابعاً كابوسياً كافكاوياً. لكن هذا ليس مجرد تخييل أدبي. كان وما زال من الأمور المعتادة في تركيا، أن يحدث شيء كهذا على أرض الواقع. الواقع التركي يحمل ملامح كافكاوية بالفعل. ليس غريباً، والحال هذه، أن تكون لمثل هذا الواقع بصمات ثقيلة في النصوص الأدبية.
في "إيكي غنج كيزين روماني"، الرواية الثانية لبيريهان ماغدن (رواية شابتين)، تلاحق يوميات الفتاة المراهقة، "بهية"، المتمردة المملوءة بالقلق والاندفاع. هي ذكية، نشيطة غير أنها خائفة من الناس. يملأها الشك من نياتهم ويحيرها سلوكهم المزدوج، فتتجنب لقاءهم قدر ما تستطيع. هي تتحدر من عائلة محافظة تكرهها، فتقضي أيامها غير مبالية بشيء أو بأحد إلى أن تلتقي بفتاة في مثل عمرها، اسمها هاندن، وهي ابنة امرأة تمارس البغاء. تشعر بهية أن هاندن هي الكائن الذي أرسله القدر لكي يخلصها من الوضع المحزن الذي تجد نفسها فيه على الدوام. تنشأ علاقة ود وتفاهم وصداقة بين الفتاتين. علاقة قوية وصادقة وحميمة. تترك بهية بيتها، لتعيش مع هاندن وأمها التي تكسب عيشها من المكالمات الهاتفية التي تأتيها من الزبائن. ترتاح بهية للعيش مع هاندن، غير أنها سرعان ما تكتشف جرائم قتل غامضة تحدث حولها. في كل يوم تصطدم بجثة جديدة. الجثث كلها تعود لذكور، شبان في مقتبل العمر. تنحرف الرواية في مسيرتها السردية، لتستدير 180 درجة، من علاقة بهية وهاندن إلى متابعة شبه بوليسية لحوادث القتل. لكن من هو القاتل؟ ولماذا يقتل هؤلاء؟ ما هو الدافع لهذه الجرائم المرعبة؟ تدع الكاتبة، القارئ، في حيرة. فثمة إيحاءات غامضة لأكثر من طرف. الحكومة، عصابات القتل، ناس منحرفون، بهية نفسها. ما يعزز الظن في بهية، نظرتها العدائية للذكور عموماً، وللشبان خصوصاً. هنا أيضاً، نجد أنفسنا في حيرة كافكاوية، ويتسرب الخوف والشك والقلق إلى نفوسنا. ليس ذلك بأثر من الحوادث المخيفة والأجواء البوليسية، بل نتيجة الشعور بلا معنى ما يجري وخلوّه من أي هدف. فالقاتل، أو القتلة، والضحايا، يبدون أدواتٍ في يد قوة سرية رهيبة تقودهم إلى الموت العبثي مجاناً.
تكتب بيريهان ماغدن بأسلوب تجمع فيه بين الشاعرية الحزينة، الدافئة والمؤثرة، وبين قسوة التقرير الصحافي البارد الجاف. تستعمل الجمل القصيرة السريعة المتلاحقة، لتكسر نمط الجملة الطويلة الغالبة على الروايات التركية. وهي تعمد إلى التلاعب بالكلمات في شكل مبتكر، فيجد القارئ نفسه أمام سيل من العبارات الجذابة التي تشده إلى النص.
لا تهتم الكاتبة كثيراً بالكليشيهات المعهودة، عن لقاء الشرق والغرب، وصراع الحضارات. ولا تميل إلى الوصف الإكزوتيكي الإستشراقي، ولا إلى محاولة التغلغل في المناطق المعروفة التي يرتادها القارئ النمطي الذي يرى في تركيا حقلاً استكشافياً لأشياء مثل الحرملك والختان والزواج الإجباري وما شابه. المناخ الذي ترسمه بيريهان في رواياتها، مناخ معولم، ومرجعياتها الذوقية، عالمية. فهموم بهية لا تختلف في شيء عن هموم أي فتاة مراهقة أوروبية أو هندية أو برازيلية. لا خصوصية منغلقة على حالها.
ما انفكت الكاتبة تردد أن كل ما تكتبه طبيعي، من وجهة نظر المجتمعات الطبيعية. "الأشياء التي أكتبها في نصوصي الأدبية ومقالاتي، تعتبر من البديهيات في أوروبا، أما هنا في الشرق الأوسط، فهي أشبه بالمحرمات التي يتحتم على المرء أن يبذل جهوداً جبارة لكي يحاول أن يكسرها".
ولدت بيريهان ماغدن في عائلة متوسطة الحال، وفي سن العاشرة اضطرت إلى العيش مع أمها التي انفصلت عن زوجها، وكانتا شبه منبوذتين. كان الطلاق صدمة كارثية بالنسبة إليهما. هذا الشعور ما زال يستوطن روحها. هي تشعر بأنها منبوذة في المجتمع التركي، ولهذا فقدت حس الإنتماء. ليس لها وطن محدد الملامح. الوطن بالنسبة إليها هو المكان الذي يشعر فيه المرء بالأمان والراحة والحرية. ولأن تركيا لم تستطع، حتى الآن على الأقل، أن تمنحها ذلك، فهي لا تجد ما يربطها بها. لديها ذلك الشعور الرهيب بالغربة والإحساس بالتمزق. لا تعرف إلى أي اتجاه يمكن لها أن تنتمي. إلى الناس أم إلى الأفكار؟ إلى الأرض أم إلى الكتب؟
تشعر الكاتبة بأنها مقطوعة عن الجذور. بأنها ليست جزءاً من المكان الذي يحيط بها. بأنها خارج المكان. وينشأ من ذلك شعور بالعجز إزاء المجسات الخارجية التي تحاول أن تلاحقها وتسمع دبيب حركتها على الأرض. ينتقل هذا العجز إلى نصوصها ويتسرب الخوف المرضي من كل شيء، إلى السطور، حتى يكاد القارئ يحس بوطأة ذلك وهو ينتقل من فصل إلى آخر أو من حكاية إلى أخرى.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها