شاب نحيل، بأكمام طويلة، وملابس مهملة، يعزف ويغني كأنما ليغني وحسب، ليثبت أن الغناء ممكن في أكثر الظروف حلكة.
كان الشاب جزءاً من حكاية تليق بالسينما، هو ابن عازف الكمان الأعمى الذي علّمه الموسيقى عسى يسند بها قضية فلسطين. وهو الذي اضطر أخيراً لأن يسلك طريق اللجوء الذي لطالما غنى كي يطالب "المهجرين" بالعودة عنه.
لكن حكاية عازف البيانو تبدو وكأنها اكتملت على طريق الهجرة، وصلتْ إلى نقطة النهاية، فما بعد الوصول إلى بلد اللجوء سنصبح أمام حكاية لا تشبه الأولى.
أيهَم بات نجماً على شاشات كثيرة، شخصية أُعدَّ عنها وعن تجربتها في المخيم كتابٌ بحاله، بات ضيفاً على حفلات وجولات في مدن أوروبية عديدة. إنه يستحق كل هذا الضوء بكل تأكيد، ولو أنه لم يكن مقنعاً البتة في غالبية المرات التي تحدث فيها للإعلام. على الأقل، لم يعد ذلك الشاب العازف الطالع من وسط الدمار.
طوال الوقت كنا نقول لأنفسنا لا يجب أن نؤاخذ الشاب على ظهوره وكلامه غير المحسوب، فلا يبدو أنه مسيّس من الأساس، لا خبرة لديه ولا العمر الكافي، لكن أحد فيديوهاته الأخيرة أظهره على نحو تهريجي حقاً.
في المخيم لم نكن لنكترث للّحن والعزف أو ما إن كان الغناء متقناً أم لا، كانت الظاهرة هي الشاغل، وهي تستحق بكل تأكيد. لكن ما معنى أن نظل نقول ونعيد لسنوات اللحن نفسه في أرجاء القارة الأوروبية "يا اللي صامد باليرموك، يا اللي صامد بدير الزور.."، و"يا شعبي الغالي يا مهجر/ بيكفي برا تتمرمر/ يلا عودوا يا أحباب/ بيكفينا طال الغياب"!
هل هو جاد فعلاً بدعوة الناس للعودة؟ إلى أين؟ أم أنه يقول أي كلام مموسق وحسب؟
لا يبدو أن الشاب يولي أهمية للعزف واللحن والكلمات، ما دام الجمهور جاهزاً ليصفق في النهاية. الجمهور متعاطف بوضوح، ولم يأت في الأساس إلا لكونه متعاطفاً. لكن ألم يحن الوقت، ألم تكفِ كل هذه السنوات كي تدفع الشاب للالتفات إلى نفسه، يتعلم، ويصغي إلى موسيقى هذه البلاد، يصغي إلى نفسه في الأساس، إلى ما تمليه عليه تجربته الرائعة السابقة، وأي طريق يمكن أن تضيء له في المستقبل؟
تقدير تجربة عازف البيانو في المخيم حتّمت أن نشيح النظر، طوال سنوات مضت، عن التهريج الذي آل إليه، لكن تقديرنا ذاته يحتّم علينا اليوم أن نطالبه بالصمت.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها