الأربعاء 2018/08/22

آخر تحديث: 14:57 (بيروت)

حنا مينه بين غوركي والبحر وموت الكتابة

الأربعاء 2018/08/22
حنا مينه بين غوركي والبحر وموت الكتابة
خدمت شقيقاته في البيوت ليتعلّم هو
increase حجم الخط decrease
قبل يوم من وفاة الروائي السوري حنا مينه، كنت "أنبش" في كتبي القديمة في مكتبتي المنسية في منزل أهلي. أعداد هائلة من الكتب والمطبوعات والمجلات فيها أشياء من النوستالجيا، أشياء من عالم ما قبل الانترنت، ومن بينها عدد خاص من مجلة "الطريق"(*) اليسارية، تتضمن خانة "كتاب الطريق" وفيها مجموعة عن المقالات عن حنا مينه، إلى جانب محور عن المفكر المصري سمير أمين الذي رحل قبل أيام. تأملت اسم حنا مينه وصورته والمساهمين في العدد، بدا لي أن الأمور تغيرت كثيراً، وانقلبت رأساً على عقب، سواء في عالم المجلات الثقافية التي تذهب نحو الأفول، أو أنماط الكتابة في تلك المرحلة. كم بدا حنا مينه بعيداً مني، رغم أني كنت اقرأه لأسباب أجهلها في بداية التسعينات، ولدي مجموعة لا بأس بها من أعماله، لكن معظم ما قرأته له يبدو باهتا في ذاكرتي، ولم يعد يعني لي البتة. كأنه بالنسبة إلي موروث ثقافوي يساوري، وليس خيار قراءة. 

في المقابل أذكر سيرة مينه، تشرده ومحاولة "أسطرته" من خلال الحديث عن أنه بدأ الكتابة "على الأكياس" اثناء عمله، أو القول أنه لمع من الشقاء والبؤس، و"تخرج في مدرسة مجلة الطريق" الشيوعية. فالروائي السوري الذي حصل على الشهادة الابتدائية فحسب، اضطرت شقيقاته للخدمة في البيوت ليتعلم هو، لا يُنسى ابداً وصفه لآخر ليلة قضتها أخته الصغيرة لتلحق بعملها في اليوم التالي، فيقول "هذه آخر ليلة تقضيها أختي عندنا من دون أن ترفسها قدَم لتوقظها كل صباح". وهام في مختلف أنحاء الريف السوري، عمل في الميناء كحمّال ثم عمل في البحر كبحّار على المراكب وتنقل في مهن كثيرة... يروي الناقد الراحل محمد دكروب (تشبه سيرته في البدايات سيرة حنا مينه) أن الحلاق الفقير حنا مينه، ترك الحلاقة وراح يبحث عن عمل آخر، في بيروت حيناً وفي دمشق، وقبل هذا كان قد عمل حمالاً في المرفأ، وخبر حياة البحر، واستطاع في دمشق الحصول على عمل في الصحافة... ينشط في الميدان الثقافي و"النضالي"، ويقتحم منذ أوائل الخمسينات، تجربة الكتابة الروائية، وأصدر العام 1954 روايته "المصابيح الزرق"، وتلتها مجموعة كبيرة من الروايات والقصص، ووصف بأنه الأديب "المغورك" نسبة الى مكسيم غوركي، وأديب "الواقعية الاشتراكية".

وكتب الروائي سهيل ادريس عن مزاياه، فلخصها بأن رواياته "هي روايات البطولة والصراع والنضال. ضد الاستعمار والرأسمالية وضد الظلم بكافة اشكاله". هي روايات "الدفاع عن الطبقات الضعيفة والفقيرة والمهضومة، والانتصار للمرأة".. وكرس ما يمكن تسميته "أدب البحر"، وقد منح البحرُ روايات مثل "الشراع والعاصفة" و"المرفأ البعيد" و"حكاية بحار" و"البحر والسفينة وهي" و"الدقل" وغيرها. ويتمتع "بحس تاريخي رفيع جعله يعي الوضع القومي الاجتماعي لبلاده السوري، وقد غطى في روايته شطراً مهما في تاريخ سوريا الكبير"، ورواية حنا مينة "روايات شخصيات أكتر منها روايات أحداث، فالمؤلف يعنى عناية فائقة برسم الابطال الرئيسيين والثانويين الذين يجسدون الرموز المقصودة".

ورغم أن حنا مينة هو الأكثر غزارة في اصدار الروايات والكتب القصصية، وكان "نجماً" يسارياً، لكنه في العام 2009 نشر في "جريدة تشرين" الحكومية السورية البيان الآتي: "لأسباب خاصة أرغب في بيع التحف الأثرية الصينية التي أملكها، وبالسعر الملائم. العنوان برزة مسبق الصنع - المرحلة الرابعة على اليمين- خزان الكهرباء مباشرة- بناء 47 الطابق الأول حنا مينه 25/10/2009)، وأحدث هذا الأمر جدلا قوياً عن مستقبل الكتّاب والكتابة، وحنا مينه مات أكثر من موت، وهو مات أكثر من ميتة في وسائل الاعلام بسبب الشائعات. كتب وصيته منذ سنوات "أنا حنا بن سليم حنا مينة، والدتي مريانا ميخائيل زكور، من مواليد اللاذقية عام 1924، أكتب وصيتي وأنا بكامل قواي العقلية، وقد عمّرت طويلاً حتى صرت أخشى ألاّ أموت، بعدما شبعت من الدنيا، مع يقيني أنه [لكل أجل كتاب]. ‏عندما ألفظ النفس الأخير، آمل، وأشدد على هذه الكلمة، ألاّ يذاع خبر موتي في أية وسيلة إعلامية، مقروءة أو مسموعة أو مرئية، فقد كنت بسيطاً في حياتي، وأرغب في أن أكون بسيطاً في مماتي، وليس لي أهل، لأن أهلي، جميعاً، لم يعرفوا من أنا في حياتي، وهذا أفضل، لذلك ليس من الإنصاف في شيء أن يتحسروا عليّ عندما يعرفونني، بعد مغادرة هذه الفانية".

وبدا حنا مينه في ظل النزاع في سوريا، بين مقولة الشاعر نزيه أبو عفش الذي يرى أن حنا مينه، "غوركي" الكتابة العربية: "أنا فخور بأنني عرفتك وكنتُ واحداً من تلامذة ضميرك وقلمك: أنت حيّ.. ومقولة المترجم منذر عياشي الذي يقول: مات حنا مينه: أنا كقارئ لم أكسب من أدبه شيئا، والآن وقد مات، لن أخسر بموته شيئاً".


(*) يتضمن العدد مقالات للوزيرة السورية نجاح العطار وسهيل ادريس وكريم مروة ويمنى العيد وصلاح الدين يونس ومحمد دكروب ورفيف رضا صيداوي، واحمد العجيبي وقيس الزبيدي...

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها