الأحد 2018/08/19

آخر تحديث: 09:23 (بيروت)

جيمس بوند أسود.. ضجة فارغة

الأحد 2018/08/19
increase حجم الخط decrease
من حين إلى آخر تفاجئنا الاستديوهات وشركات الإنتاج السينمائي الكبرى بتغيير ممثلي الأدوار الرئيسية في سلاسل أفلامها. هذا تقليد مألوف وحيلة تسويقية معروفة ومُجرَّبة. لكن هذه الأيام يتجادل المشاهدون والمعلقون والنقاد وربّات البيوت في بريطانيا وأميركا حول أفضلية من يصلح لتمثيل جيمس بوند، الجاسوس الأشهر سينمائياً، الاسكتلندي الأنيق عاشق المارتيني وزير النساء وصائد الأشرار.



قبل أيام، نشر الممثل الإنكليزي إدريس إلبا تغريدة قصيرة على تويتر يقول فيها: "اسمي إلبا.. إدريس إلبا". بعد بضع ساعات نشر تغريدة أخرى: "لا تصدِّق الضجة". التغريدتان المبهمتان، والبريئتان كذلك، أسهمتا في تزايد الإشاعات حول تأدية إلبا دور البطولة فى سلسلة أفلام جيمس بوند، بعدما أشيع عن رغبة منتجي السلسلة في استقدام ممثل أسود للقيام بالدور ليخلف البطل الأخير دانيال كريغ، الذي أعلن أن فيلم بوند الجديد المرتقب ظهوره العام القادم سيمثّل الظهور الأخير له في الدور.


الأمر ليس بجديد، فالتكهنات حول خليفة دانيال كريغ في تأدية دور جيمس بوند يعلو أزيزها منذ عام 2014. حينها ظهر اسم إدريس إلبا كمرشح محتمل، في تسريبات رسائل البريد الإلكتروني الخاصة بشركة سوني بيكتشرز. في واحدة من تلك الرسائل، كتبت إيمي باسكال، التي ستصبح في ما بعد رئيسة لشركة سوني: "يجب أن يكون إدريس هو بوند الجديد". لكن حتى هذه اللحظة، لم يظهر أي إعلان رسمي بشأن هذه الخطوة. الجديد هو حالة الضجيج الإنترنتي التي صاحبت انتشار إمكانية قيام ممثل أسود بلعب جيمس بوند. ففي حين تحمّس كثيرون للفكرة، فإن آخرين، مثل الإعلامية الإنكليزية كاتي هوبكينز وأمثالها لم يتوانوا في الإعلان عن كرههم للفكرة والتأصيل لهذا الرفض، القادم من منطلقات عنصرية في أغلبها.


ليس للبيض فقط

البشرة البيضاء ليست ضرورية لهذا الدور، بغض النظر عما تعتقد هوبكنز وأمثالها. وبالطبع، فإن بعض الأفكار الأخرى التي يفرزها الحديث عن "التمثيل" من شأنها أن تغيّر الشخصية بشكل كبير وغير مضمون النجاح. من المؤكد أن جيمس بوند لو صار أنثى، فستتغير الشخصية بشكل جذري. وبالنظر إلى مدى مركزية "نساء بوند" في قلب الشخصية والحدوتة، ينطبق الأمر نفسه على فكرة "بوند" مثلي الجنس. على نحو مماثل، ربما يكون ظهور "بوند" تقي وورع أمراً رائعاً في نظر المحافظين، لكن مقبوليته وانتشاره سيخسران أحيازاً محترمة بين الشباب والمراهقين الذين ترقم حياتهم رغبات الجموح.


عندما أنشأ إيان فليمينغ الشخصية لأول مرة (في أوائل خمسينيات القرن العشرين)، جاء بوند مزيجاً مستوحى من شخصيات عديدة عرفها المؤلف أثناء خدمته في قسم الاستخبارات البحرية البريطانية. المظهر الخارجي لشخصية بوند مرسوم بعمومية في النص الروائي، واستمر الأمر كذلك تقريباً حتى الكتاب الثاني عشر في السلسلة، "أنت فقط تعيش مرتين" (1964)، حيث أمدّ فليمينغ شخصية العميل بخلفية اسكتلندية، مستوحاة مباشرة من الممثل شون كونري، الذي كان قد لعب دور بوند في فيلمي "دكتور نو" و"من روسيا مع الحب" (1962، 1963). وعلى مدى أكثر من خمسة عقود، صارت واضحة قابلية شخصية بوند للتشكيل الطيّع، على يدّ عشرات الكتّاب والمخرجين والممثلين. ومع ذلك، فإن من يزعمون أن جيمس بوند لا يمكن تصويره من قبل إدريس إلبا (أو أي شخص آخر ملون) يبنون حجتهم برمتها على الادعاء بأن الشخصية ببساطة لم تُكتب بهذه الطريقة.


بوند لم يكن أبداً مكتوباً ليصير أشقر بعيون زرقاء، مثلما كان الحال مع دانيال كريغ. لم تُكتب الشخصية أيضًا لفهم تعقيدات الجريمة السيبرانية أو الهواتف الذكية، لكنه تمكّن من تعلم بعض الحيل الجديدة على مدى العقود القليلة الماضية. مثلما يتطوَّر العالم، تطوَّر جيمس بوند. وإذا كان الالتزام شبه اللاهوتي بما حدده فليمينغ في تلك الروايات الأصلية، أحد الأسباب التي يوردها معسكر الرافضين، فلماذا جرى التساهل مع العديد من كُتّاب السيناريو المختلفين الذين فرضوا تفسيراتهم الخاصة لجيمس بوند؟ لماذا مرّ الأمر ببساطة عندما لُعب الدور بواسطة ممثلين غير اسكتلنديين - بمن فيهم أولئك الذين يتحدثون الإنكليزية (روجر مور، تيموثي دالتون، ديفيد نيفن، ودانيال كريغ)، الأيرلندية (بيرس بروسنان)، وحتى الأسترالية (جورج لاسنبي)؟


إنها حجة لا تصمد بالضرورة، لأن الحقيقة هي أنه لا يهمّ إذا كان جيمس بوند لديه شعر بني أو أشقر أو من اسكتلندا أو أيرلندا. وبالمثل، لا يهمّ ما هو لون بشرته لأن - إلى جانب كونه أحد أبناء المملكة المتحدة - عِرقه ليس أساسياً لوصفه أو تعريفه. العرق ليس هو ما يقود دوافع جيمس بوند، ولا يساهم في أي موقف يجد نفسه فيه. عرق جيمس بوند لن يغيّر أبداً في السياق العام الناظم لأفلامه (رغم أنه سيكون مثيراً للاهتمام في حالة رؤية "جيمس بوند" ملوناً، أن يعطي السيناريو فرصة إظهار شيء من الإدراك الذاتي للشخصية كونها ملونة عمداً وليس اختياراً عشوائياً أو طبيعياً).


إضافة إلى ذلك، جيمس بوند، كسلسلة أفلام، ليست عملاً تاريخياً، وغير مرتبطة بزمن محدد، كما إنها متخففة تماماً من أي ارتباطات بزمن النصّ الأصلي. إنها أفلام تتحرك مع الزمن، مثل أي مشروع تجاري ناجح، وبالتالي فإن إمكانية وجود الرجل ذي البشرة الداكنة هي ببساطة الناتج المنطقي لكاستينغ طبيعي وواقعي. لا شك في أن هناك بريطانيين سود يعملون بنجاح كوكلاء في جهاز المخابرات حالياً. من الوارد وجود بعض العملاء السود عندما نشر إيان فليمينغ الرواية الأولى من جيمس بوند، ولكن كان من غير المرجح، في زمن العنصرية الجميل، أن تضطلع شخصياتهم بالأدوار الرئيسية في فيلم تجسس يقدّم نموذج الذكر المهيمن (alpha male). الآن، من الممكن، ثقافياً على الأقل، أن نتخيّل وجود "بوند" أسود كطفرة تقدمية حقيقية (بالأخذ في الاعتبار أن العائلة الملكية البريطانية رحبّت مؤخراً بأميركية متعددة الأعراق).


الادعاء العنصري الذي تتبنّاه هوبكنز وأمثالها يقوم في أساسه على نظرية بسيطة ملخّصها أن "بوند رجل أبيض"، وهي نظرية تُظهر عدم قدرتها على فصل الأساسي في جدالها عن غيره من مكونات أخرى ليست بتلك الأهمية سوى في خيالها العنصري. العديد من سمات بوند الجسدية تغيّرت عبر رحلة انتقالية بين سبعة ممثلين قدّموا الشخصية الأيقونية، ما يطرح سؤالًا كبيرًا حول طبيعة التفكير العنصري في بريطانيا الحديثة (وأميركا كذلك) الذي يجعل مجموعة من البشر (وبعضهم يحتل مناصب قيادية في مجالات مختلفة) يتعامل مع لون البشرة بخصوصية مثيرة للشكّ تختلف كثيراً عن غيرها من تباينات الجسد بين ممثل وآخر، أو في هذه الحالة بين كائن بشري وآخر.


بديهيات غائبة ومستعادة

باتصال التفكير في الجدل المصاحب لمجرد التفكير في احتمال قيام ممثل أسود بدور بوند، يجد المراقب نفسه عائداً إلى نقاط بديهية، من شدة إلحاحها المفترض وجوده في النقاش. فإذا كانت عملية اختيار الأدوار عادلة أصلاً، من الوارد أن يأتي يوم ويقوم ممثل ملون بتأدية دور جيمس بوند. هذا من المفترض أن يكون فاتحة أي نقاش. لكن الاستقطاب التالي لتغريدتي إدريس إلبا، والذي تعبّر عنه تقارير إخبارية وتعليقات وتحليلات في صحف ومواقع العالم الناطق بالإنجليزية، يعيدنا إلى ما قبل المربع الأول.


وهكذا، فإن المؤهل الأساسي والبديهي لأي ممثل يسعى إلى استبدال دانيال كريج عندما يتخلى عن دوره، هو القدرة على أداء شخصية جيمس بوند بشكل مقنع. الانحياز إلى فكرة تقييد الدور بممثلين من عِرق واحد سيكون خطأ فادحاً وإشكالياً، سواء كان ذلك للحفاظ على بوند أبيض أو ضمان وجود جيمس بوند أسود. في كلتا الحالتين، سيكون الكاستينغ مدفوعاً بخصائص وتوازنات تفتقد التأصيل الفني وتدير ظهرها لأساسيات أي إبداع فني، وفي أثناء احتدام الجدال بين معسكري المحافظة الفنية والصواب السياسي، تضيع فرص تمرير الدور إلى مَن هم أكثر فاعلية ومناسبة لأدائه، بالنظر إلى أن عمر المرشح المحتمل للدور، إدريس إلبا، سيكون 50 عاماً حين يضطلع بأداء الشخصية. وفي كل الأحوال، إذا لُعبت شخصية جيمس بوند بنجاح من قبل ممثل أسود جيد، فستكون ضربة مزدوجة لكلا الفريقين، اللذين يشكل العرق بالنسبة لهما عنصراً أساسياً لتحديد الهوية الشخصية، وكلاهما على خطأ في ذلك.

هذا لا يعني أن العِرق غير مهمّ. فهو مهم، لأسباب تاريخية واجتماعية، أحيانًا معقدة، وأحيانًا بسيطة للغاية. التظاهر بخلاف ذلك هو إنكار للتاريخ. نعلم أن خطايا الأسلاف يتردد صداها عبر أجيال عديدة، والعنصرية خطيئة. في الماضي (وغالباً في الحاضر) كان التعامل مع العِرق كأساس لتعريف شخص ما واستخدامه تالياً كنهج تبريري للظلم والتمييز، خطيئة. بسبب هذا الإرث الثقافي من الخطيئة البيضاء، سيكون ثمة معنى ودلالة لوجود شخصية جيمس بوند التي يؤديها ممثل أسود. من شأن ذلك أن يوفّر دليلاً على تحرك الثقافة الإنجليزية بعيداً عن العنصرية المتأصلة واضطهاد الناس بسبب عرقهم.


وبذلك، لن يكون لعب ممثل ملون لدور الجاسوس البريطاني الخارق سوى جزء صغير من الطريق إلى المصالحة العرقية بين سادة ومضطهدي الأمس في عصر الصواب السياسي وكوتا الأدوار، ولكن سيكون له قيمة نوعية في سوق الأفكار المعولمة والسائلة. هوليوود ستسوِّق تأدية واجبها التقدمي على أكمل وجه، بتصدّيها لدعوات المتطرفين اليمينيين وبتمكينها ممثليها السود من لعب أدوار ظلّ امتيازها حكراً على الممثلين البيض. سيحتفل بعض الحالمين بصحبة محترفي ادعاء التقدمية من المشاهير، قبل أن تظهر أسباب أخرى للشكوى والسعي لإصلاحها. الخاسرون من مهووسي نظرية سيادة الرجل الأبيض، سينتحبون على الإنترنت. أما البقية، فسيأملون الاستمتاع بفيلم جيد ومسلٍ. ومن ثم يمكننا المضي قدمًا، بثقة أكبر في أن الادعاءات العنصرية دائماً تؤثر سلبياً على ذكائنا ووعينا المتطور. لأنه قبل كل شيء، جوهر جيمس بوند ليس سياسات الهوية ولا إصلاح الأخطاء التاريخية، ولكن إطلاق النار على الأشرار بمسدسه الأنيق، وإلقاء النكات المتواصلة، والنوم مع الجميلات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها