الأحد 2018/08/12

آخر تحديث: 09:11 (بيروت)

أمام نصب سلمان الفارسي في كازرون

الأحد 2018/08/12
increase حجم الخط decrease
شهدت مدينة كازرون الواقعة في محافظة فارس غرب إيران أخيراً سلسلة من التظاهرات والمسيرات الاحتجاجية، وذكر موقع تلفزيون "جوناز" الناطق بالفارسية أن المحتجين أضرموا النيران بنصب كبير يقع عند مدخل المدينة، يمثل الصحابي سلمان الفارسي.

تُعتبر كازرون من مدن فارس التاريخية، وهي بحسب تعريف ياقوت الحموي في "معجم البلدان"، بين البحر وشيراز، "كلها قصور وبساتين ونخيل ممتدّة عن يمين وشمال وبها سماسرة كبار وسوق كبيرة جادّة"، "حصينة، واسعة، كثيرة الثمار، وأخصب مدن كورة سابور". أما اليوم فهي مدينة متواضعة تقع في منتصف الطريق بين شيراز وبوشهر، بلغ عدد سكانها نحو تسعين ألف نسمة في السنوات الأخيرة. من هذه المدينة ومن محيطها، خرج عدد كبير من كبار العلماء والأدباء والفنانين، في مقدمهم الصحابي سلمان الفارسي، على ما يقول التقليد المحلّي الشائع.

وفقاً للروايات العديدة التي تناقلها أهل السير، كان هذا الصحابي أول من دخل الإسلام من الفرس، وذلك إثر رحلة طويلة شاقة أمضاها في البحث والتقصي عن الحقيقة، فعُرف بلقب "سابق فارس وصاحب الغرس"، وباتت سيرته مثالاً راسخاً استعاده أعلام المسلمين من السنّة والشيعة على مر العصور. في أقدم السير النبوية المعروفة، نقل ابن إسحاق قصة طويلة جاءت على لسان سلمان نفسه، وفيها استعرض الصحابي الجليل محطات مسيرته الروحية الطويلة التي قادته إلى الإسلام بعدما اختبر أنواعاً شتّى من المشقات والصعاب. وفي "المستدرك على الصحيحين"، أخرج الحاكم النيسابوري حديثين في إسلام سلمان، جاء الأول في صيغة مختصرة، وجاء الثاني في صيغة روائية مطوّلة تزخر بالتفاصيل والعبر. شكلت هذه الروايات أساسا لقصص أخرى صاغها بعض من كبار أعلام الفكر والتاريخ، أشهرها رواية ابن أبي الحديد في "شرح النهج"، ورواية ابن الأثير في "أسد الغابة"، ورواية أبي نعيم الأصفهاني في "تاريخ أصفهان". وتحتوي كل رواية من هذه الروايات على قصص وأحاديث عديدة تسلط الضوء على واقعة إسلام المهاجر القادم من بلاد فارس.

هو في السيرة المختصرة التي وضعها الصفدي في "الوافي بالوفيات"، سلمان أبو عبد الله الفارسي الرامهرمزي الأصبهاني، صحب النبيّ وخدمه، وتوفيّ سنة ستّ وثلاثين للهجرة، وقبره بالمدائن. كان أبوه من كبار التجار في بلاد فارس وكان على المجوسيّة، إلا أن توقه إلى الحق أبعده عن دين أبيه، فصحب عدداً ممّن كانوا متمسّكين بدين المسيح، وانتقل من عالِم إلى عالِم، إلى أن أخبره الأخير منهم عن مبعث النبيّ وصفته. ثم صار إلى المدينة، فكان فيها عبداً لرجل من اليهود، ولمّا هاجر النبيّ، أتاه وأسلم، ثم كاتب مولاه اليهودي، فأعانه النبيّ والمسلمون حتّى عُتق. كان سلمان أول فارسي يدخل الإسلام، وكان دخوله إشارة تنبئ بدخول قومه في دين محمّد. في حديث ذكره مسلم في صحيحه، لمّا قرأ الرسول الآية الثالثة من سورة الجمعة، "وآخرين منهم لما يلحقوا بهم"، سأل رجل: من هؤلاء يا رسول الله، "فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على سلمان، ثم قال: لو كان الإيمان عند الثريا، لناله رجال من هؤلاء". وفي حديث آخر نقله الحاكم في المستدرك، عند نزول الآية الثالثة والتسعين من سورة التوبة، "وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم"، سأل الناس: "يا رسول الله من هؤلاء الذين إذا تولينا استبدلوا بنا؟"، فأجابهم النبي، وكان سلمان إلى جنبه: "هم الفرس هذا وقومه".

ذكر الحاكم النيسابوري حديثاً للرسول يقول: "السُبَّاق أربعة. أنا سابق العرب، وصهيب سابق الروم، وسلمان سابق فارس، وبلال سابق الحبشة". وذكر ابن ماجة في سننه حديثاً يقول في الرسول: "أن اللَّه أمرني بحب أربعة، وأخبرني أنه يحبهم. قيل: يا رسول اللَّه، من هم؟ قال: علِيّ منهم، يقول ذلك ثلاثاً، وأبو ذر، وسلمان، والمقداد". كذلك، أخرج الحاكم النيسابوري حديثاً يشير إلى دور سلمان الرئيسي في معركة الخندق عام حرب الأحزاب، وفيه أن المهاجرين قالوا: سلمان منّا، وقالت الأنصار: سلمان منّا، فقال رسول الله: "سلمان منّا أهل البيت". كذلك، ربط الحاكم بين علي وسلمان في حديث يؤكد فيه الصحابي الفارسي سماعه الرسول يقول: "من أحب علياً فقد أحبني، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني". في المقابل، يشير ابن أبي الحديد في "شرح نهج البلاغة" إلى تشيّع سلمان الفارسي وما يثيره من أسئلة في قوله: "كان سلمان من شيعة علي رضي الله عنه، وتزعم الإمامية أنه أحد الأربعة الذين حلقوا رؤوسهم وأتوه متقلدين سيوفهم في خبر يطول، وليس هذا موضع ذكره، وأصحابنا لا يخالفونهم في أن سلمان كان من الشيعة، وإنما يخالفونهم في أمر أزيد من ذلك". تزخر المراجع الشيعية بالشواهد التي تجعل سلمان علماً من أعلام الإمامية، وأشهرها قول للإمام علي في سلمان نقله الزركلي في "الأعلام"، وفيه سليمان "امروءٌ منّا، وإلينا أهل البيت من لكم بمثل لقمان الحكيم، علِم العلم الأول والعلم الآخر، وقرأ الكتاب الأول والكتاب الآخر، وكان بحراً لا ينزف".

يختلف الرواة في تحديد موطن سلمان الأصلي. في كلمة ألقاها أمام أهالي مدينة كازرون في أيار/مايو 2008، قال الخامنئي: "إن سلمان الفارسي ينتسب إلى هذه المنطقة مما يعتبر مدعاة فخر لها. سلمان الفارسي طبعاً لكل إيران. كل أهالي إيران، والمتحدثين بالفارسية، وكل الإيرانيين المحبين للرسول الأكرم، ‌يفخرون بسيدنا سلمان. سلمان ينتمي إلى بلادنا وشعبنا. ويعد أهالي كازرون ولادته بينهم وفي منطقتهم، ويعتبر أهالي أصفهان أنه نشأ وترعرع في منطقتهم، ولا تناقض بين هذين القولين، فإن كل الإيرانيين، من بعيد وقريب، يفخرون بشخصية مثل سلمان. يجب ألا يقال إن سلمان الفارسي من فارس أو من إيران، يجب القول إن فارس وإيران من سلمان الفارسي".

في العام 2012، أقامت بلدية كازرون نصبا من البرونز يمثل سلمان الفارسي عند مدخل المدينة، وقيل يومها إن التمثال أنجز في "دار طهران للفنون" تحت إشراف النحات طاهر شیخ‌ الحکمایی، ويزن 1500 كيلوغرام، بينما يصل ارتفاعه قرابة 3 أمتار، وبلغت تكلفته نحو ملياري ريال إيراني، ويُعتبر أطول وأكبر تمثال لسلمان الفارسي في إيران. في الأسبوع الماضي، تواصلت مسيرات الاحتجاج في كازرون، وامتدت النار المشتعلة لتطاول هذا النصب، واختلفت التعليقات التي تناقلها أهل العامة والخاصة في الكلام عن هذا الحادث، وتضاربت بشكل مثير.

فنياً، لا يمثل هذا التمثال بأي شكل من الأشكال أسلوب طاهر شیخ‌ الحکمایی الحداثي، وهو نصب كلاسيكي تقليدي أوروبي الطابع لا يحمل أي طابع إيراني شرقي، يماثل التماثيل العديدة التي رُفعت في إيران وتركيا ومصر في العقود الأولى من القرن العشرين، وهو من البرونز، ولا يمكن لحريق "عادي" أن يتلفه. من المفارقات المثيرة، أدركت النار التي اشعلها المتظاهرون هذا التمثال، واشعلت سجالاً قديما حول هوية سلمان الفارسي ومقامه في العوالم الإسلامية، والأرجح أن هذا السجال سيظل مفتوحاً إلى ما لا نهاية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها