السبت 2018/08/11

آخر تحديث: 11:47 (بيروت)

محمود درويش متَّهماً إلى الأبد بـ"التخلي عن الوطن"!

السبت 2018/08/11
محمود درويش متَّهماً إلى الأبد بـ"التخلي عن الوطن"!
سجل أن عربي
increase حجم الخط decrease
عند نشر الإعلان الترويجي الخاص به في العام 2014، أثار فيلم المخرجة الفلسطينية ابتسام مراعنة "سجل أنا عربي"، والذي يتناول جوانب من سيرة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، انتقادات وتعليقات يهتم معظمها بالكشف للمرة الأولى عن الشخصية الحقيقية لريتا، بطلة عدد من قصائد الشاعر، وهي الإسرائيلية تمار بن عامي المتحدرة من أب بولوني وأم روسية، والمقيمة في برلين. 


كذلك تمحور أشدّ النقد حول "اللسان العبري" للفيلم الوثائقي، واقعاً ومجازاً، حيث معظم الشهادات بما فيها مقابلات درويش جاء بلغة عبرية، بالإضافة إلى اتهام الفيلم بأنه يأتي من وجهة نظر إسرائيلية، خصوصاً أن المخرجة أصرّت على وضع لاحقة صريحة لاسمها تشير إلى زواجها من يهودي: (ابتسام مراعنة- منوحين). هذا بالإضافة إلى التمويل الإسرائيلي للفيلم (من وزارة الثقافة والرياضة- المجلس الإسرائيلي للسينما)، رغم أن المخرجة وعدداً من فلسطينيي 1948 يعتبرون تلك الأموال حقاً لهم باعتبارهم من دافعي الضرائب.

لكن تفاصيل عديدة في الفيلم تستحق التوقف عندها، من بينها رسائل درويش إلى تمار بن عامي، والتي قُرئ جزء منها بالعبرية (بصوت الممثل مكرم خوري)، وما إذا كانت ستنشر ذات يوم، على غرار رسائل "غسان كنفاني إلى غادة السمان"، وتحت بند أدب الرسائل. ومن بين ما يمكن أن يثيره الفيلم، مسؤولية الضيوف المشاركين عن نتيجة الوثائقي، إذ هوجمت مخرجة الفيلم، ولم تشفع لها مشاركة أسماء غير مشكوك بوطنيتها من رفاق للشاعر أو أقارب له، وهم يفترض أن يكونوا على علم بتمويل الفيلم وهوية مخرجته (ظهر في الفيلم الشاعران الراحلان سميح القاسم وأحمد دحبور، والكاتبة السورية رنا قباني وهي زوجة سابقة للشاعر درويش، القاص الفلسطيني زياد خداش، وأحمد درويش شقيق الشاعر).


لا يقل أهمية وإثارة كلام سميح القاسم، مستعيداً موقفه إثر مغادرة رفيق دربه البلاد في العام 1970، ولعله الأقسى بحق الشاعر الراحل: "انزعاجي كان مركباً، فيه جانب شخصي.. الإنسان الوحيد تقريباً الذي كان جزءاً من حياتي اليومية. بُترت هذه الحالة الشخصية". ويتابع القاسم: "صحيفة معاريف كتبت خبراً بعنوان كبير: وطني ليس حقيبة، وأنا لست مسافراً!، شعرتُ بإهانة، ثقافية، قومية، وطنية، وإهانة شخصية".   

ويختم القاسم: "البعض قال خلّيه يطلع تنفتح أمامه آفاق جديدة لتحديث القصيدة، وكان ردي عليهم قاسياً: عمرها ما تتطور القصيدة إذا تطويرها يعني التخلي عن الوطن".

كان يمكن فهم كلام القاسم وغضبته في حينه، عندما غادر درويش البلاد، عندما كتبت الصحيفة العبرية ما كتبت. أما الآن، وبعدما ظهر أن الشاعر لم يغادر لكي يتخلى، بل كان أروع مثال لمزيد من التمسك ورفع لواء القضية، فماذا يعني أن يبقى القاسم على قسوته وغضبته واتهاماته بالتخلي؟

من حق القاسم أن يبقى عند رأيه برفض الهجرة، لكن الاتهام بالتخلي عن الوطن بحق شاعر لم يتوقف لحظة عن وصف هجرته بـ"الرحيل عكس الوطن من أجل تصويب أدق"، فيه، على الأقل، الكثير من القسوة.

لم تصفُ تماماً صحبة الشاعرين - شقّي البرتقالة الفلسطينية كما وصفهما الكاتب الفلسطيني محمد علي طه - منذ أن غادر درويش حيفا، رغم القصائد المتبادلة التي أهداها كل منهما للآخر، ورغم الوئام الكبير والمؤثر الذي ضمّه كتاب الرسائل، وفيها فسّر القاسم التباساً كبيراً حول قصيدة له فهمت خطأ على أنها هجاء لدرويش عند سفره: "لقد أحزنني رحيلك أكثر مما أغضبني. كان فى رحيلك قسط من الأنانية بقدر ما كان مماثل من الأنانية فى سخطي عليك. والغريب فى الأمر أن كتيبة بأكملها من الكتّاب والصحافيين والشعراء والقراء رأت في هذا منطقاً تاريخياً لتجديد أمجاد القيسة واليمنية، حتى أنهم أقسموا بلا رفة هدب إن قصيدة "إليك هناك حيث تموت" موجهة إليك رغم أنها نشرت قبل رحيلك بعامين".

كانت القصيدة تقول في مقطعها الأخير "إليك هناك في بيروت/ إليك هناك حيث تموت/.. إليك هناك يا جرحي ويا عاري/ ويا ساكب ماء الوجه في ناري/ إليك إليك من قلبي المقاوم جائعاً عاري/ تحياتي وأشواقي/ ولعنة بيتك الباقي".

لكن غضبة القاسم في قصيدته، حتى لو لم يقصد فيها صاحب "عاشق من فلسطين"، فهي في نهاية المطاف ترمي إلى النيل من لاجئ فلسطيني يتنعم برفاهية المنفى، وهو ليس سوى جرح وعار، يموت بأكفان حريرية ولا يستحق سوى اللعنة!

إنه صراع أزليّ لا ينتهي، بين الباقين والراحلين، يردد فيه الراحلون إلى الأبد نشيد الجذور، فيما الباقون متمسكون بنغمة "الوطن ليس فندقاً نتركه عندما تسوء الخدمة فيه".

مسيرة درويش النضالية، وهي، على مستوى الشعر وحده، جعلت اسم فلسطين مسموعاً أكثر في أرجاء الأرض، لم تكفِ لدفع رفيق الدرب القديم للتسامح، إن لم نقل الاعتذار عن الإساءة القديمة. كذلك، فإن الذين ثاروا وماجوا ضد وثائقي "سجل أنا عربي" لم يستفزهم اتهامات سميح القاسم لأبرز رموز قضية يدّعونها.

وفي أية حال، فإن مسيرة الشاعرين وافتراقهما تستحق بحثاً آخر، ليس فقط على مستوى الفوارق الشعرية، بل وكذلك بما يمثل الإثنان من داخل وخارج.. وكيف يمكن أن تعبّر تلك المسيرة عن تحولات السياسة ومنعطفات التاريخ الفلسطيني المعاصر. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها