السبت 2018/08/11

آخر تحديث: 11:54 (بيروت)

ذِكرٌ قلِق: طقس نكرومانسي

السبت 2018/08/11
increase حجم الخط decrease
يتوقف معرض "ذكر قلق" (إشراف وتنظيم القيمتين النشيطتين كريستين خوري ورشا سلطي، لغاية 24 أيلول، متحف سرسق) عند جانبه التوثيقي، الذي يشيده بكم أرشيفي ضخم، متناولاً فيه مناسبة فنية محددة، وهي "المعرض التشكيلي العالمي من أجل فلسطين"، الذي جرى تنظيمه العام 1978 في الجامعة العربية في بيروت. في إثر توقفه، يقدم المعرض ذلك الجانب بجملة سردية، تجمع بين القليل من التأريخ والكثير من الإخبار، حتى تصير في منتهاها متطابقةً مع مستهلها، وبينهما، تطنب في كونها إسمية. أما حين تبدو فعلية، فترتبط بماضٍ تحشوه بالواقعات، إلى درجة انقلابه إلى مجرد مصنع لها. وهذا ما طبع الجو الذي تنتجه تلك الجملة، بنزوعٍ، ليس نوستالجياً أو "أبابياً"، على وصف لسان الطب لألم الغريب عن زمنه، بل إنه خلاصي، أي أنه يرمي إلى الخلاص من الحاضر عبر منقذ أوحد، وهو منصرمه.



من هنا، يظهر الجانب التوثيقي للمعرض كأنه يبدي ذلك المنقذ، الذي يصيغه التحرر الأممي وقضاياه النبيلة، وعلى رأسها، قضية فلسطين المحتلة، طارحاً إياه بالتشديد على حلوله سابقاً، وعلى لزوم استعادته راهناً في إثر تقصيه وإنشاده. فلا يتساوى تذكر المنقذ ذاته مع استرجاعه من الماضي بقدر ما يرادف تخليصه من فقدانه الحالي، كما لو أنه الآن ممنوع من الصرف، وبالتالي، لا بد من فك الحجر عنه، وجعله موجوداً كسبيل إلى معالجة الحاضر والتعالج منه. 
وفي هذه الجهة على وجه الدقة، لا يعود الكم الأرشيفي بمثابة مستند الإستنتاج والتوصل، بل مجموع المكتوب والمرسوم والمصور الذي يحيي المنقذ، وعلى هذا النحو، هو ضرب من "النكرومانسيا"، من استدعاء روح الميت، لكن مع نفي موته. والدليل على ذلك، هو إبرازه شاطّ الوقوع في شكل يفيد بكونه غاية في التغيير، أو غاية التغيير أيضاً. وفي هذا السياق، يغدو مجموعه الوثائقي ذلك، كناية عن ذخائره التي لا تشير إلى قداسته فحسب، بل إلى أنه حي يرزق. لكن، يجب إعتاقه بالتوجه إليه من أجل استمداده كحلٍ لمأزق الحاضر. طبعاً، لاستعادة روح المنقذ شرط، وهو منحه قربان، وما هو إلا الدراية بأنه جزء من ذلك المأزق، وأن موته أو إحياءه لا يبدلان في وضعه هذا. فالمنصرم، ليس بوصفه وقائع، بل باعتباره حصائل ومآلات، أضحى ركيزة من ركائز اقفال الحاضر، كما أن استرجاعه يضاعف من هذا الإقفال.

لكن، ثمة أمر يفلت من جو المعرض، ويكاد يميط اللثام عن كون الطقس النكرومانسي لا يؤدي سوى إلى الحاضر المقفل نفسه، الذي يؤلف المنقذ، وبعد انقضائه، إيديولوجيته. هذا الأمر هو التهكم، الذي ينطوي على معنى ينقذ المعرض من جوه، أي من منقذه: لا يمكن التصديق بأن المنصرم، أن استدعاءه، هو الخلاص، أو الطريق إليه. إلا أن-وبين مزدوجين ربما-إجراء النكرومانسيا، أو أي إجراء آخر، غالباً ما يترافق فنياً، وفي الحاضر المقفل بالطبع، مع نوع من التهكم، الذي يعين على تفادي الإعتقاد، ليس به، بل بفعاليته، وتفادي تبعته أيضاً. لذلك التهكم، وفي المعرض، علامات، وفي مقدمتها، التجسيم الشكلي واللوني، فضلاً عن ترتيب المسار بشكل تحشيدي وقفزي.
بهذا التهكم، ينزع المعرض القلق الذي يسببه المنصرم أو إبداؤه، بحيث يجعله، وهذه المرة، كأحداث، وليس كمحصلات، من دون جدواه، التي تتصل بكونه مختبر تحرر مما كان يقبض على حاضره آنذاك، وليس مجرد شبح خطابي قد يجول في حاضره الحالي، لكي يطرح ظله كحل لمأزق هو جزء منه. لقد كان من المتاح لـ"ذكر قلق" أن يبتعد عن "نكرومانسيته"، ويقترب من التعامل مع المستعاد كمستند للقراءة الفعلية له، وليس التجميعية فقط، راوياً الحادث فيه بالإنطلاق من الإحتفاء الإبداعي بقضاياه، وليس اختصاره بكونه منقذاً، وما وسيلة إنقاذه سوى التبرع بالأعمال الفنية، وإنشاء الغاليريهات!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها