الجمعة 2018/07/06

آخر تحديث: 11:31 (بيروت)

هكذا أصبحتُ ناشراً في "أمازون".. واغتبطتُ.. وندِمتُ

الجمعة 2018/07/06
هكذا أصبحتُ ناشراً في "أمازون".. واغتبطتُ.. وندِمتُ
increase حجم الخط decrease
كانت الساعة حوالى السابعة مساءً، وصديقي المفترض أن أقابله بعد قليل أرسل رسالة ليلغي الموعد في اللحظة الأخيرة. ولم يكن لدي مزاج للقراءة أو فعل أي شيء آخر، وبدا واضحاً أني سأقضي أمسية منزلية مملة بعض الشيء. ولسبب ما، كتبت في محرك البحث غوغل، كلمَتي "النشر الذاتي"، ولم يكن هذا موضوعاً يشغلني في الحقيقة، ولا حتى يثير فضولي. وقادني البحث بسرعة إلى موقع أمازون لـ"النشر المباشر"، وبخليط من الملل وقليل من الفضول الذي تسرب إليّ، بدأت في ملء بيانات عضوية ناشر، واستهلك الأمر حوالى خمس دقائق. وفي تمام السابعة وعشر دقائق، كنت أتأمل زراً أمامي على الشاشة، يقول: "أُنشُر كتابا"، وهذا فأجأني قليلاً، فلم أكن في الحقيقة أفكر في النشر، ولم يكن عندي كتاب للنشر في الأساس، ولم أتصور أن الأمر سيحدث بهذه السرعة.

إلا أن التجربة كانت مغرية، وظننت أنه من الواجب الاستمرار فيها إلى النهاية. وتذكرت أني، قبل ستة أعوام، كانت لدي دراسة بالإنكليزية، كتبتها أثناء دراسة الماجستير، وظننت حينها أنها جديرة بالنشر، لكنني لم أسع جدياً إلى ذلك، ونسيت الأمر. والنص قصير، يصلح لأن يكون ورقة أكاديمية، أو ما كان رائجا في الماضي باسم كرّاسة، ولم يكن بالضرورة مناسباً ليكون كتابا. المهم، حملت نسخة "بي دي آف" من النص، وقادني ذلك إلى شاشة لتصميم الغلاف، واستهلك الأمر عشر دقائق، قضيت معظمها في اكتشاف أدوات التصميم، لا في عملية التصميم نفسها، والتي تمت في حوالى ثلاث دقائق أو شيء من هذا القبيل. وبدا الغلاف بسيطاً وجيداً جدا، ومناسبا لموضوع الكتاب. وبمجرد أن انهيت الغلاف، اكتشفت أن الموقع كان قد أصدَرَ أتوماتيكياً، رقم إيداع دولي بالفعل، منذ اللحظة الأولى التي كتبت فيها عنوان الكتاب على الشاشة. ولم أعرف ما هي الخطوة التالية، وكانت هناك شاشة جديدة، للتسعير، والضرائب، وحقوق النشر. وانتهيت من هذا أيضاً حوالى الساعة السابعة والنصف. ووجدت رسالة تقول، إن الكتاب ستتم مراجعته، وإذا تمت الموافقة عليه سيكون متاحاً في السوق بعد 72 ساعة. وكنت قد فقدت الكثير من حماسي ساعتها، ووصلتني رسالة من شخص يقيم في الولايات المتحدة كنت قد قابلته لمرة واحدة قبل شهر في لندن. ويبدو أنه كان يشعر بالملل أيضاً، فالرسالة كانت دعوة للدردشة غير المبررة: "كيف حالك؟ ماذا تفعل الآن؟". وأنا رددت ساخراً بأني نشرت كتاباً للتو في "أمازون". وسألني عن عنوانه، وأخبرته. وختم رسائلنا بـ"مبروك". وفي الصباح التالي كنت قد نسيت الأمر، وانشغلت بأمور أخرى.

وبعد يوم ونصف من حوارنا القصير، أرسل صديقي رسالة أخرى، كانت صورة للكتاب الذي اشتراه عبر "أمازون"، وطلب توصيله في اليوم التالي، وكان بالفعل عنده في نيويورك في هذا الصباح نفسه. كانت سهولة الأمر مفاجئة ومذهلة فعلاً. ففي اليومين التاليين، اشترى أصدقاء في أربع قارات مختلفة، الكتاب، ووصلهم في اليوم التالي مباشرة. وكانت هناك نسخة إلكترونية في "كيندل" متاحة للبيع أيضاً، وأصبح بإمكاني متابعة المبيعات بحسب البلد، دقيقة بدقيقة، إن أردت، مع جدول بقيمة حقوق النشر، التي من المفترض أن تصل إلى حسابي شهراً بشهر. وكذلك، لدي خيارات متعددة لأنظمة الدعاية والتسويق للكتاب، تقدمها "أمازون".

وبعد ذلك بأيام قليلة، وقبل أسبوع من اليوم، أعلنت "أمازون" أن نظامها للنشر الإلكتروني في "كيندل" أصبح يدعم اللغة العربية، بشكل رسمي. وكان هذا خبراً كبيراً، لكنه لم يجتذب الكثير من التعقيبات، وإن كان بعض دور النشر العربية جاهزاً بالفعل للحدث، وأعلن أن إصدارات باتت متاحة الآن في "كيندل". وهذا خبر سعيد بالتأكيد لقرّاء العربية، خصوصاً المقيمين في المهجر، ويجدون صعوبة في شراء الكتب العربية حديثة الإصدار.

لكن الأمر ليس بتلك البساطة التي يبدو عليها. فقبل خمسة أعوام، وحين كانت وتيرة مبيعات جهاز "كيندل" للكتب الإلكترونية تتضاعف بمعدلات قياسية، أقيم معرض فني كبير في لندن عن مستقبل القراءة. وعرض أحد الفنانين، عدداً من الكتب حديثة النشر نسبياً، ووضعها في فتارين زجاجية كتلك التي تعرض فيها القطع الأثرية في المتاحف. وكانت الرسالة واضحة ومتوقعة. الكتب الورقية في طريقها لأن تصبح ماضياً أو تراثاً. لكن النبوءة الساذجة لم تتحقق، فسرعان ما هبطت مبيعات "كيندل"، وظل نصيب الكتب الإلكترونية من سوق الكتاب متواضعاً. فما أشار إليه معرض مستقبل القراءة، ضمناً، ومن دون قصد غالباً، هو أن الكتب الورقية منتج يتسم بُبعد جمالي، وتلعب دوراً اجتماعياً، أكثر اتساعاً وتعقيداً من مجرد القراءة، يمتد من الزينة وعملية التبادل الاجتماعي، وصولاً إلى منح القداسة.

وبعد أيام من نشر "كتابي"، توضحت تعقيدات أخرى لم تكن في الحسبان. فبعض الأصدقاء في دول عربية وجدوا أن الكتاب غير متاح للشراء في بلادهم، لأسباب تقنية أو قانونية. وصديق يقيم في طهران، أخبرني بأن "أمازون" لا تبيع منتجاتها لإيران بسبب العقوبات الأميركية، ففي النهاية الشركة خاضعة لقانون الولايات المتحدة، كما أن 30 في المئة من نصيبي في المبيعات، يذهب إلى الخزانة الأميركية في صورة ضرائب تستقطع من المنبع. وهذه كلها أمور وافقت عليها ضمناً، من دون أن تخطر في بالي، بمجرد أن ضغطت على زر النشر. وغير هذا، فإن عدداً من الأصدقاء كانت لديهم تحفظات قوية على "أمازون" نفسها، وأخبروني بأنهم لن يشتروا الكتاب، ونجح بعضهم في إرغامي على الشعور بالذنب. فالشركة التي نجحت في تحويل العالم إلى سوق كبير وموحد، واحتكرته، ومركزته بالكامل في الولايات المتحدة، هي واحدة من النماذج الأكثر قتامة للرأسمالية الاحتكارية والجانب التدميري للعولمة، والهيمنة الأميركية، مع سجل شديد السواد من التهرب الضريبي، وسوء استغلال العاملين، وغيره. وهذا السجل ساهم بلا شك في أن يجعل مالكها أثرى رجل في العالم.

وفي النهاية، بدا أن إجمالي مبيعات الكتاب لا يتجاوز الأصدقاء الذين قرروا شراءه لمجاملتي. ولم أتوقع غير ذلك. فما يفتقده النشر الذاتي، هو سمعة دار النشر، التي تلعب دوراً أوسع من مجرد طباعة الكتاب وجعله متاحاً في رفوف المكتبات.

حتى اليوم، ما زالت خدمة النشر الورقي "حسب الطلب" في "أمازون" غير متاحة باللغة العربية، فقط النشر الإلكتروني. لكن ذلك سيتاح آجلاً أم عاجلاً. ويظل نصيب النشر الإلكتروني متواضعاً من سوق النشر إجمالاً، لكن من الصعب الحكم على الأمور بعد جيل واحد من الآن. وبالتأكيد، يبدو النشر اليوم أسهل مما كان في الماضي، وبشكل مذهل فعلاً، وهذه أخبار سعيدة بلا شك، لكنها تحمل في داخلها مخاطر ليست بالقليلة. فماذا يحدث لدور النشر المحلية في المستقبل؟ وكيف يصبح شكل سوق الكتاب حين يحتكر نصيبه الأكبر، لاعب واحد، خاضع لقوانين الدولة الأكثر هيمنة في العالم ونظامها الضريبي وعقوباتها، وتوجهاتها السياسية والإيديولوجية؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها