الثلاثاء 2018/07/31

آخر تحديث: 12:08 (بيروت)

ترامب إذ يشابه لينين.. ويهدم الإمبريالية

الثلاثاء 2018/07/31
ترامب إذ يشابه لينين.. ويهدم الإمبريالية
البحث عن لينين
increase حجم الخط decrease
ربما يكون آخِر وجه للشبه بينهما هو الوصول إلى السلطة مع شُبهَة علاقة مع طرف خارجي مؤثر ومعادٍ. جاء لينين على متن قطار مصفح من ألمانيا التي كانت في حالة حرب مع روسيا القيصرية خلال الحرب العالمية الأولى. وبسرعة، أنهت ثورة البلاشفة (1917) الحرب بتوقيعها صلح "بريست ليتوفسك" مع ألمانيا. وجاء دونالد ترامب مرافَقاً بتدخل روسي إلكتروني (صار مثبتاً أميركيّاً) في الانتخابات الرئاسيّة، ودخل البيت الأبيض (2017). وسرعان ما وصل قطار الشعبوية الترامبية إلى قمة هلسنكي التي كرست "سلاماً" مع نفوذ استراتيجي لروسيا، وهي العدو/المُنازِل لأميركا في حرب النفوذ بين أقطاب النظام الدولي ما بعد الأحادية الأميركية.

ربما لم يعد الرمز الثوري، فلاديمير إيليتش لينين، رأس الحزب البلشفي الروسي وقائد ثورة أكتوبر 1917 الشيوعية، حاضراً في بال كثيرين من القرّاء العرب، على رغم حضور بعض أطيافه في التغطية البصرية الواسعة لمونديال 2018. وكان ملء العين والبصر عندما تحول من قائد حزب اشتراكي صغير، إلى مؤسّس الدولة الاشتراكية الأولى تاريخياً. حدث ذلك في خضم الحرب العالمية الأولى، التي نجمت عنها زلازل ما زالت متفاعلة في المنطقة العربية (بل المدى الإسلامي أيضاً): تفكك الإمبراطورية العربية- الإسلامية في مرحلتها العثمانية، مع ما رافقه من ظهور دول اتفاقية "سايكس بيكو" في المنطقة، إضافة الى زوال نظام الخلافة، وتحول تركيا إلى دولة علمانية يقودها أتاتورك.. وغيرها. لعب لينين دوراً ضخماً في ذلك الزلزال، لا سيما إذ تعمّد البلاشفة نشر نص اتفاقية سايكس بيكو، والتي بيّنت أن فرنسا وانكلترا، اللتين كان الكثير من العرب يعتقدون أنهما تتصارعان على النفوذ في المنطقة، كانتا متفقتين على تقاسمها وتفكيكها ورعاية دولة للحركة الصهيونية في مفصل استراتيجي بين مشرقها ومغربها! استطراداً، هناك خيط بارز في أنواع النفوذ الغربي في المنطقة يتمثل في "إجماع" على منع ظهور قوة محلية- إقليمية وازنة في الشرق الأوسط.

خارج المؤسسة.. داخل النفوذ الدولي
ليست تلك الأمور هي التي تستدعي التأمل في الشبه بين لينين وترامب. جاء الرجلان من خارج المؤسسة السياسية في بلديهما؟ ربما نعم. تحول كل منهما، خلال فترة قصيرة، من شبه مجهول سياسي، إلى رئيس بلاد ضخمة في النفوذ الاستراتيجي؟ ربما نعم. أدى انتصار كل منهما إلى تغيير في المشهد الاستراتيجي الدولي؟ حسناً، لنتوقف قليلاً.

كانت الحرب العالمية الأولى زلزالاً مذهلاً في توازنات النظام الأوروبي والعالمي، لأن الامبراطوريات الأوروبية كانت ممتدة عالمياً، وأميركا كانت في بداية تمددها خارج الأميركيتين. أنهت الحرب الاولى قرناً كان أطول فترة سلام شهدتها أوروبا، بدأ بسقوط المشروع الامبراطوري لنابليون بونابرت، ورعته "اتفاقية فيينا" الشهيرة. ساهمت روسيا في سقوط نابليون، وفي إرساء النظام الأوروبي الذي ترسخ بعده، وهو تميّز باندماج الحركات القومية مع نظام الدولة- الأمة (بمعنى الشعب) التي ترسخت بعد "معاهدة وستفاليا" (1648). ساهمت روسيا القيصرية في سقوط نابليون، ونالت نفوذاً واسعاً في أوروبا، بل إن هزيمتها أمام اليابان في حرب 1905، نُظر إليه أوروبياً كأول هزيمة لـ"الرجل الأبيض" أمام شعب من الملونين! (في ذلك الوقت كانت مقولة "مسؤولية الرجل الأبيض" عنواناً للتوسع الاستعماري لدول مشروع الحداثة الغربي).

الأرجح أن الساحة الأهم للنفوذ الروسي القيصري كانت في اتجاه الامبراطورية العثمانية. قبل الحرب العالمية الأولى، بقرابة نصف قرن، تآزرت بريطانيا وفرنسا، ضد روسيا القيصرية، ما أدى الى هزيمتها أمام الامبراطورية العثمانية في "حرب القرم" (1853- 1856). يحتاج ذلك المشهد إلى تحليل موسع، بما في ذلك علاقته مع المسار الغربي لتوزيع إرث "الرجل المريض" (= المنطقة العربية الاسلامية). لكن لنقتصد بالإشارة إلى مسار أوروبي في منع روسيا القيصرية من مد نفوذها في تلك المنطقة. ومع هزيمة روسيا أمام اليابان، صار لمنع نفوذ روسيا من الانتشار شرق أوسطياً ألف سبب وسبب. في الحرب العالمية الأولى، كان واضحاً زوال "معاهدة فيينا" والدور الروسي في أوروبا والغرب. وفي تعقيدات تلك الحرب، أن سقوط روسيا القيصرية بدا مطلباً مشتركاً لخصوم. إذ سعت إليه أيضاً ألمانيا كي تقفل جبهة كانت تستنزفها، ولإخراج قوة كانت مقلقة لحليفتها تركيا. وتكفلت ثورة لينين بتحقيق ذلك الهدف الاستراتيجي. 

لاحقاً، سيحاول خلفاء لينين جهدهم العودة الى الشرق الأوسط، بنجاحات متفاوتة، وبصراع دائم مع النفوذ الغربي، بالأحرى الأميركي. بعد حرب أكتوبر1973، خرج معظم النفوذ السوفياتي من المنطقة، وبدا انه انمحى مع "الربيع العربي"، لكنه عاد بالقوة العسكرية العارية مع "عاصفة السوخوي" (2015).

ومع قمة هلسنكي، أخرج ترامب بلاده من موقع استراتيجي كرّسته منذ 1973: كونها القوة الكبرى الوحيدة في الشرق الأوسط، وبمعنى أن كل نفوذ استراتيجي آخر يجري تحت سقفها. ويعبّر الوضع في سوريا بكثافة عن ذلك الموقع الذي نالته روسيا للمرة الأولى في الشرق الأوسط.

توازنات الأمم والامبراطوية
رسمت روسيا السوفياتية مشهداً مغايراً للنظام الدولي. وصار الصراع داخل القوتين العظميين في النظام الدولي (أميركا والرأسمالية وروسيا والمعسكر الاشتراكي)، مندمجاً مع صراع معقد على النفوذ عبر العالم، يصعب اختصاره في مجرد صراع بين قوى كبرى.

ومنذ وصوله إلى السلطة، أطاح ترامب توازنات النظام الدولي بالطريقة التي تبلور فيها بعد الحرب العالمية الثانية، بما في ذلك "الحرب الباردة" (أنهت دولة لينين)، ونظام العولمة تحت قيادة أحادية أميركية (مع وهن أوروبي واضح، وعودة الحروب الى يوغسلافيا السابقة وهي وريثة أمبراطورية أوروبية قديمة)، وتفكك نظام الأحادية الأميركية، والصعود القوي للصين المرافق لبداية الانتقال الى نظام أفضلية أميركا في تعددية الأقطاب.

هناك مسألة تتعلق بالنفوذ الأميركي منذ الحرب العالمية الأولى. تجنبت أميركا إلى حد كبير تجربة الاستعمار الاوروبي. ومدت نفوذها بالاستناد إلى قوة نموذجها الاقتصادي والثقافي والسياسي (="القوة الناعمة" فعلياً)، وبررت حروبها خارج حدودها بالانحياز الى قيم عالمية كالديموقراطية وحقوق الانسان وغيرها. بعد الحرب العالمية الثانية، كانت أميركا ترث الاستعمار الاوروبي المنحسر، وبدت مناصرة لتحرر الشعوب، وكثفت نفوذها عبر مؤسسات نالت قبولاً شاملاً، خصوصاً الأمم المتحدة ومؤسساتها، مثل "البنك الدولي" و"منظمة الصحة العالمية" و"مجلس حقوق الانسان" و"صندوق النقد الدولي" وغيرها. هناك من لا يتردد في القول بأن تلك المؤسسات لم تكن سوى طريقة الامبراطورية الأميركية في نشر نفوذها عالمياً، بل ان استضافتها في نيويورك تعبير رمزي عن ذلك. في الشرق الاوسط، يستخدم تعبير "الامبريالية" في الإشارة إلى الامبراطورية الأميركية تحديداً، لكن الامبريالية في اللغة هي الامبراطورية!

في إرث لينين الاشتراكي أنه أول من نظّر لانتقال الرأسمالية الغربية من الاستعمار الى مرحلة الامبريالية، خصوصاً كتابه الشهير "الامبريالية أعلى مراحل الاستعمار". ولا يناصب ترامب الشعبوي العداء، شيئاً، أكثر الامم المتحدة ومؤسساتها، بل يسعى الى هدمها لمصلحة أن تمارس أميركا نفوذها العالمي بطريقة مباشرة واعتماداً على مؤسساتها. ولعل ذلك جزء من فشل المؤسسات الدولية (خصوصاً "منظمة التجارة العالمية") في إخماد الشرارات الأولى للحرب التجارية العالمية. بقول آخر، يبدو ترامب على عداوة شرسة مع مؤسسات... الإمبريالية الأميركية التقليدية! هل هناك مغامرة في القول بأن ذلك ملمح آخر يجمعه مع لينين؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها