الإثنين 2018/07/30

آخر تحديث: 12:46 (بيروت)

عبد المنعم رمضان.. حداثي يهيم في البريَّة

الإثنين 2018/07/30
عبد المنعم رمضان.. حداثي يهيم في البريَّة
"أنا شاعر أقرأ الروايات لأكتب الشعر"
increase حجم الخط decrease
يصف الناقد المغربي رشاد يحياوي، الشاعر المصري عبد المنعم رمضان، في كتاب "النص ولغزه"، أنه "قليل الكتابة خارج الشعر"، أي أنه يمارس الشعر في كل ما ينتجه من كتابة، وليس في القصيدة فقط. لكن وصفًا أشمل –من فعل التدوين- سيبدو أكثر دقة لنعت أداء الشاعر السبعيني، الذي لا يفارق مهنته في أي من أنشطة التعبير، حتى في أكثر تفاعلاته عادية.


يتحدث عبد المنعم رمضان (1951) وكأنه يدوّنُ، ويكتب بإيقاع الكلام ذاته. فعلى الرغم من أنه شاعر حداثي، إلا أنه لم ينس الشعر كفعل مشافهة. فلا يكون مدهشًا، مثلًا، أن يملي على محاوره، إذا كان ثمة حوار صحافي يجريه، إجابته كنص يحفظه، وليس نصاً وليد التداعي الحر لفكرة طارئة يثيرها السؤال الموجه إليه. وليس غريبًا أيضاً أن يستدعي من ذاكرته نصًا تراثيًا أو معاصرًا (يحفظه دوماً عن ظهر قلب) ليدلل على طرحه، وأن يصيغ ذلك كله في تركيب لغوي يلتزم بإيقاع موسيقي يفرضه أثناء الحوار، وكأنه تمرينه الاعتيادي على العروض، أو اشتباكه الروتيني مع اللغة، مثلما يقول في إحدى حواراته: "هاجسي(...) كيف أشتق من هذه اللغة القوية، كلامى الخاص، وكيف أصبح شخصاً فرداً داخل لغة عامة، وأن تقتنص لسانك من كلام عام، وأحياناً تنتصر عليك اللغة، ونادراً ما تنتصر عليها، وفى لحظة انتصارك هذه تصنع اسمك. وكلنا نعمل فى سبيل اصطياد هذه اللحظة. أن ننتصر على اللغة".


وفي سبيل ذلك الهدف، أي الانتصار على اللغة، أصدر عبد المنعم رمضان تسعة دواوين شعرية، وكتابين نثريين، في غير تتابع زمني منطقي. فقد تمتد الفترة بين الديوان وتاليه 14 عامًا، أو عاماً واحداً، وأحيانا يُصدر كتابين في العام نفسه، على الرغم من أنه لا يتوقف طوال تلك الفترة عن الكتابة والنشر في الصحف السيارة. لكنه، كشاعر حداثي، لم يغفل الاستفادة من أدوات الحداثة المادية، فينتخب قصائد بعينها يصدرها في دواوين ويتخلى عما سواها، ويقول في حوار قديم: "أكتب القصيدة مثل كل شاعر، وأفرح بها مثل كل شاعر، وقد أظن بها الظنون الحسنة، أنها رائعة مثل كل شاعر، وأسعى إلى نشرها في الصحف أو المجلات مثل كل شاعر، وبهذا أحقق شهوتي الأولى، أما صناعة ديوان الشعر فهي شهوة أخرى، تجبرني على أن تكون هناك مسافة بيني وبين ما كتبته لكي أعيد النظر فيه، فأستبعد الكثير وأبقي القليل، ما نشرته فى دواوين هو أقل من نصف ما نشرته فى الصحف والمجلات، ظنًا مني أن الديوان شهادة دائمة عليّ، أما النشر المنجم فهو فقط اختبار لقابلية القصيدة للاتصال بالقارئ أو عدم قدرتها على الاتصال به، أنا مسؤول مسؤولية كاملة عن الديوان، النشر المنجم المسؤول عنه هو شهواتي الصغيرة".

خلال العامين 2015 و2016، أصدر رمضان عن الهيئة العامة المصرية للكتاب، مجلدين يضمان أعماله الكاملة تحت عنوان "ديوان عبد المنعم رمضان"، أو أعماله "الناقصة" كما يصفها ساخرًا، لأنها خالية من ديوانه الأحدث "الهائم في البريًّة"، الذي أطلقه الخميس الماضي(*)، وقصائده الجديدة التي ربما سينشرها خلال أوقاته المقبلة. ذلك أن الشاعر بالنسبة إليه "على ظهر حصان لا يقف أبدًا، والحصان هذا الذي يعدو، يجعل الشاعر فى حالة رجرجة دائمة، الشاعر الذي سيستقر سيموت".

وبالرغم من حيوية تسيطر على مقولته السابقة، إلا أن إحساساً عميقاً بوطأة الزمن وشعوراً واضحاً بالشيخوخة، يسيطران على قصائد الديوان الجديد، ويطلان عبر فصوله المتعددة، إيحاءً وتصريحًا، ليشكلا الإطار الأساس الذي بنى عليه الديوان: "رأيت الشمس تفتح عينيها/ وتدلني على الدرب الذي/ يكاد يمتد هكذا منذ طفولتي/ فاتبعت الدرب/ واتبعت بعده البحر/ والجبل/ والصحراء/ واتبعت الكوة التي في صدري/ واتبعت أبي وأمي/ وأوشكت أن أصل إلى آخر أحفادي/ لولا أن أحدهم أوقفني/ وأمسك بيدي/ وناولني حذائي/ وشدني إلى مقبرتي/ ورسم علامتي على الهواء النائم/ واختفى كأنه أنا".

ويقول في موضع آخر:" لم يبق لي من أدوات الحكمة، غير أن أقيس الوقت، وأسمع الصمت يطن في قلبي، فأحس بأن الأرض تدحرج مثل حيوان نائم، بأنها أصبحت واطئة وبعيدة، وأنها ليست مستوية كما كنت أظن، أحس أنني أرتفع مثل هواء فوق مدخنة، وأن ظهري يستند إلى حطام كثيف، وأن الغبار الداكن يجثم هكذا فوق رئة شخص آخر يظهر في المرآة.
في طفولتي كنت أهدد العالم بأحلامي البالغة، الآن ترفعني الشمس الميتة وتسند ظهري، وتهددني بتقديمي دون جنازة أو كراهية أو يأس، إلى عالم لا يقبل النكران، الأكثر إساءة لي، أنني لشدة تعبي، أتحصن بيدين خاليتين من العصيان ومن الطقوس السحرية".

هكذا، يبدو الديوان في إطاره العام، كأنه مراجعة شعرية لمنجز حياتيّ. ففي حين يتصدر ثلثه الأولى شيخ يعاني وطأة الزمن، والإحساس بخواء حياته، فإنه يستعرض، خلال ثلثيه الباقيين، تلك الحياة التي لم تكن خاوية أبدًا، قبل أن يعود مرة أخرى إلى شعوره بالوحدة وقرب النهاية: "مازال آخر حلم يراودني/ أن أكون المسافر وحدي/ إلى وطن/ كان يشبه أمي".

ولا تتبدى الدائرية، التي تفترضها القراءة السابقة، في بناء الديوان وحده، وإنما تحكم كذلك بنية العديد من قصائد الديوان. وهو ما علّق عليه الناقد شاكر عبد الحميد، خلال احتفالية إطلاق الديوان، قائلًا إن "الذات المتكلمة في هذا الديوان، تعبّر عن حالات شتى لروح قلقة تزدحم فيها الهلاوس والمخاوف والرغبات والصراعات، وتكون في أوقات كثيرة غير راغبة في الحسم، لأنها تتوق دائمًا للعيش في تلك الحالة البينية/الحدية، وأن الطريق في هذا الديوان قد يكون طريقًا أو متاهة، وقد يكون دوامة. المتاهة تصل بصاحبها إلى العدم وإلى الشك، والوصول كذلك ليس مؤكدًا، ولذلك ما من يقين هنا. هذه الحالة من الشك والفقدان لليقين نجدها ترتبط بعالم موجود داخل هذا الديوان هو عالم الظلال".

لكن الدائرية، وهي تقنية مستقاة من السرد الروائي، لا تبدو جديدة على شعر عبد المنعم رمضان، الذي يقول عن نفسه "أنا شاعر أقرأ الروايات لأكتب الشعر". لكن الجديد في الديوان هو ذلك الإحساس بوطأة الزمن، وهو ما أشار إليه الناقد جابر عصفور خلال احتفالية إطلاق الديوان: "هناك نقاط عديدة تجعلني أشعر بأن ذلك جديد على عبد المنعم رمضان، الأولى وطأة الإحساس بالزمن، والثانية هي الإحساس الخانق بوجود العسكر، فعبد المنعم الذي ينكر الارتباط بالواقع أصبح مرتبطًا بالواقع، ومثال ذلك قصيدة مينا (مينا دانيال)، وكأن هناك عبد المنعم رمضان جديدًا يخرج من عبد المنعم رمضان القديم. والثالثة أن درجة الشفافية في الصور صارت عالية جدًا، وهناك في الديوان العديد من الصور المغايرة، وأنا أرى أن هذا الديوان هو قيمة مضافة لشعر عبد المنعم رمضان".

ويتفق الشاعر السوري أدونيس، الذي حضر إلى القاهرة في زيارة وجيزة، خصيصًا لحضور إطلاق الديوان، مع طرح عصفور، فيما يخص "جديدية" الصورة الشعرية في نص "الهائم في البريَّة"، قائلاً: "المجتمع العربي منذ سقوط بغداد حتى اليوم –في تقديري- لم ينتج أي معرفة يمكن أن تضاف إلى المعارف التي أنتجها ابن رشد والفارابي وابن سينا وتوقف مع سقوط بغداد، وتوقف أكثر مع الخلافة العثمانية حتى سقوطها بالشكل الذي نعرفه جميعًا، وحلت محلها بعض الدول الأوروبية، وإذا نحن، منذ منتصف القرن الثالث عشر، لم ننتج معرفة. المفكر والشاعر والناقد، كل الذين يعملون في الإطار الفني اللغوي أولاً، عليهم أن يحدثوا قطيعة مع هذه المرحلة التاريخية الميتة". وأضاف أن "ما أطمئن إليه في قراءتي لشعر عبد المنعم رمضان، هو أن هذه المرحلة بدأت مع الفنانين التشكيليين والشعراء والمسرحيين والروائيين، كل من ليس لهم مرجعية في الماضي، بدأوا ينتجون شيئًا مختلفًا وجديدًا، وأنا يسعدني أن أقوم بشهادة بسيطة هنا، هي أن عبد المنعم رمضان، الشاب المتواضع الذي يكاد لا يتكلم إلا همسًا، يلفتني فيه شيئان، الأول هو أن العلاقات التي يقيمها بين الكلمة والشيء تنتج جمالاً آخر مختلفًا على مستوى هذه العلاقات بين الإنسان والعالم، بين الإنسان واللغة، وبين القارئ وما يقرأه. الشيء الثاني هو أن من ينتج جمالاً جديدًا ينتج معرفة جديدة".

(*) صدر الديوان عن دار العين في القاهرة. وأقيمت، مساء الخميس الماضي، حفلة لإطلاقه في الدار، وقدم خلالها الناقدان، جابر عصفور وشاكر عبدالحميد، مقاربات نقدية للديوان، وحضرها الشاعر السوري أدونيس.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها