الأربعاء 2018/07/25

آخر تحديث: 12:56 (بيروت)

طائفة "البهرة".. سلطان المال وغياب السياسة

الأربعاء 2018/07/25
طائفة "البهرة".. سلطان المال وغياب السياسة
في الستينات، سمح عبد الناصر بعودة نشاط طائفة البهرة بشكل محدود
increase حجم الخط decrease
أسفل جبل المقطم، نصب جوهر الصقلّي خيمته بعدما دخل مصر على رأس الجيش الفاطمي العام 968 ميلادياً. أحضر الصقلّي المهندسين والبنائين، وعلى مساحة 360 فداناً، قرروا بناء مدينتهم الجديدة التي ستصبح عاصمة للدولة الفاطمية، أول دولة وإمبراطورية للمذهب الشيعي في التاريخ الإسلامي بعد ثلاثة قرون من الاضطهاد وهروب الشيعة وتخفّيهم.

استشار الصقلّي العرافين لاختيار اليوم المناسب لوضع أسس المدينة الجديدة. صعد العرافون الجبل، لرصد النجوم واختيار اللحظة المناسبة، مَدّوا من الجبل حتى الوادي حبلاً مشدوداً علقت فيه الأجراس، حتى إذا ظهر النجم المناسب هزوا الحبل، فسمع البناؤون الأجراس، فرموا أساسات المدينة. لكن غراباً وقف على الحبل، فدقت الأجراس، فرمى العمال الأساسات في ساعة نحس تجلى فيها في السماء كوكب القاهر (الاسم العربي القديم لكوكب المريخ).

منح جوهر الصقلي المدينة، اسم "المنصورية"، نسبة إلى الخليفة المنصور والد الخليفة المعز، لكن، حينما حضر الخليفة المعز بديوان حكمه ودولته، غيّر الاسم إلى القاهرة، لتعرف حتى الآن باسم قاهرة المعز.

أشرقت شمس الفاطميين، ومعها المذهب الشيعي الإسماعيلي، على العالم، من القاهرة. توسعت امبراطوريتهم لتشمل شمَال أفريقيا وتمتد لتهدد الدول السنية في إيران والعراق. وسبحان مبدل الأحوال، بعد ألف عام، ما زال الصراع السنىي-الشيعي مُستمراً، وإن انتقل هؤلاء إلى إيران، وأولئك إلى مصر والسعودية.

الطبيعة الباطنية للمذهب الإسماعيلي، والصراعات السياسية داخل البيت الفاطمي، ساهمت في ظهور عشرات الانشقاقات المذهبية. ففي العام 1094، حينما توفي الخليفة المستنصر بالله، نشب خلاف بين ابنيه المستعلي ونزار. تحول الخلاف شقاقاً مَذهبياً، نتجت عنه طائفة الشيعة النزارية، وطائفة المستعلية التي ينتمي إليها البهرة. وما زال الخلاف بين الطائفتين (النزارية والمستعلية) مستمراً حتى الآن.

الشيعة الاسماعيليون يختلفون تماماً عن الشيعة الاثني عشريين المنتشرين الآن في إيران والعراق والشام، ويرفضون التورط في الصراع الشيعي/الايراني – السني/العربي، الدائر الآن، وتلقى الطوائف الاسماعيلية بمختلف مشاربها تقديراً كبيراً من الحكومات الغربية والعربية.

استمرت الدولة الفاطمية في مصر لما يقرب الثلاثة قرون، وانتهت بدخول صلاح الدين الأيوبي القاهرة، وإعلان الدولة الأيوبية السنّية، ومسحه الآثار الشيعية والاسماعيلية من المدينة. فتحول الأزهر من جَامعةِ اسماعيلية إلى جامعة سنية، وحرر مراقد أهل البيت في مصر من المذهب الشيعي باستدعاء المتصوفة السنّة وانشاء التكايا لهم، لإزالة أي جذور للمذهب الشيعي في مصر.

غربت شمس الشيعة الاسماعيليين عن مصر وأفريقيا. لكن، في الهند، حافظت طَائفة البهرة على طقوسها الدينية وانتمائها وجذورها الفاطمية المصرية. توسعوا في التجارة والتزموا اعتزال السياسة، لكن أنظارهم ظلت معلقة بالشرق، بمدينتهم التاريخية حيث مراقد الأئمة والمساجد المقدسة التى شهدت مولد مذهبهم.. قاهرة المعز الفاطمية.

منذ ثلاثينات القرن الماضي، بدأ البهرة رحلة عكسية غرباً. زَار السلطان طاهر سيف الدين، مصر، العام 1938، والتقي طلعت حرب وعدداً من أعيان وباشوات ذلك الزمان. واستمر منذ ذلك الوقت في الانتقال والهجرة إلى الدول العربية، خصوصاً ضمن الهجرات الهندية إلى دول الخليج العربي. لدى البهرة الآن تجمعات في الكويت والسعودية، وبالطبع دبي، أحد مراكز أعمالهم التجارية، كما تربطهم علاقات قوية بحاكم دبي الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم.


في كل بلد يسعى البهرة إلى دخولها، يطرقون أولاً الأبواب الرسمية عبر زيارة الحاكم وتقديم الهدايا والتبرعات للحكومات وشعوب تلك البلدان. يلتزمون بعدم العمل في السياسة ولا يسعون إلى نشر مذهبهم، لا يختلطون أو يتزوجون من أهل تلك البلدان، ويرفضون التعامل مع الصحافة والإعلام. طوال وجودهم في مصر، لم يمارسوا أي نشاط إعلامي سوى في العام 1993، حينما أصدروا كتيباً صغيراً بعنوان "مسلمون فاطميون"، تضمن توثيقاً لكل انشطتهم الخيرية وعمليات ترميم الآثار التي مولوها في مصر ودول شمال أفريقيا حيث آثار الفاطميين القدامى.

بعد ثورة يوليو1952، حاولت طائفة البهرة دخول مصر بشكل رسمي، من خلال ترتيب لقاء بين سلطان البهرة الدكتور محمد برهان الدين، والرئيس جمال عبد الناصر، لكن سياسة القبضة الحديدية لدولة ناصر في ذلك الوقت، والتي كانت تحارب أى جماعة دينية، حالت دون إتمام اللقاء. فحاول البهرة مد أواصر العلاقات الرسمية من خلال التبرع للأزهر وصيانة أضرحة أهل البيت في مصر، حتى منح شيخ الأزهر حسن الباقوري، السلطان محمد برهان الدين، درجة الدكتوراة الفخرية العام 1966، تقديراً لجهوده وتبرعاته لصيانة الجامع الأزهر وعدد من المساجد والآثار الاسلامية في القاهرة الفاطمية. ثم تمكن سلطان البهرة من لقاء عبد الناصر الذي سمح، في الستينات، بعودة نشاط طائفة البهرة بشكل محدود.

أشرقت شمس البهرة، أحفاد الفاطميين، مع مجيء الرئيس السادات، الذي التقي بسلطان البهرة محمد برهان الدين، وتبرع الأخير بعشرات الملايين لصالح تسديد ديون مصر، والإنفاق على ترميم عشرات المساجد والأضرحة. وكان أبرزها الجامع الأقمر، المجاور لمسجد الحاكم بأمر الله، وافتتحه الرئيس السادات بحضور سلطان البهرة. كما كرم السادات، سلطان البهرة، بوسام النيل، وهو أرفع وسام مصري. وفي المقابل، سمح السادات للبهرة بممارسة طقوسهم الدينية في القاهرة الفاطمية، وتحديداً في مسجد الحاكم بأمر الله الذي يحمل قدسية خاصة لدى طائفة البهرة.

إن زرتَ مسجد الحاكم بأمر الله، ستلاحظ وجودهم، حيث الرجال بملابسهم البيضاء الموحدة، والنساء بملابسهم الملونة المزركشة. يحضرون قبل الصلاة بساعة على الأقل، ويصلون كجماعة مُنفصلة في زاوية من زوايا مسجد الحاكم بأمر الله. يؤمن البهرة بأن الحاكم بأمر الله اختفى في أحد الآبار السبعة لمسجده، وأنه سيظهر ذات يوم خارجاً من أحد تلك الآبار. وحتى مجيء الحاكم بأمر الله، فهم يحرصون على حراسة وصيانة تراث أجدادهم الفاطميين بالتعاون مع الدولة واليونيسكو. لكن غالباً ما تثور اعتراضات بعض الأثريين على مشاريع الترميم التي ينفذها البهرة، وهي نقطة خلافية تضاف إلى دورهم منذ سنوات في شراء عدد من العقارات والمباني السكنية المجاورة لمسجد الحاكم بأمر الله، وعلى طول شارع المعز لدين الله الفاطمي.

رغم ملامحهم الهندية الواضحة، ولكنتِهم التي تظهر جليّة عند تحدثهم بالعربية، وانتشارهم في اليمن وعدد من دول الخليج، وقاعدتهم في مدينة بومباي في الهند، يتمسك البهرة بجذورهم المصرية. حتى انهم، في مفارقة غريبة، مشهورن بختان الإناث، وهي العادة المصرية التي لا تعرفها الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، بما فيها مسلمو الهند، لكن البهرة يتمسكون بختان الإناث كجزء من ممارستهم العقائدية ورابط بهويتهم المصرية. ورداً على هذه الممارسات بدأت مجموعة من النساء المنتميات إلى مجتمع البهرة، في الولايات المتحدة الأميركية، مبادرة لانهاء عمليات ختان الفتيات داخل مجتمع البهرة خصوصاً في أميركا.


لأسباب غير مفهومة، حمل حسني مبارك احتراماً وتقديراً كبيراً للشيعة الاسماعيليين، ويمكن وصف فترة مبارك بأنها العصر الذهبي لكل طوائف الشيعة الاسماعيليين في مصر. فالشيعة الإسماعيليون النزاريون، بقيادة الآغا خان الرابع، الشاه كريم الحسيني، سُمح لهم بالعمل داخل مصر عبر مؤسسة الآغا خان التى اقامت ودعمت مئات المشاريع الخيرية والثقافية، أبرزها بالطبع المشروع العظيم لحديقة الأزهر الذي تكفلت مؤسسة أغا خان للتراث المعماري بإقامتها في قلب القاهرة. وتبرع السلطان محمد برهان الدين، بعشرات الملايين من الدولارات إلى الحكومة المصرية، طوال عهد حسني مبارك، وحظي بتقدير مبارك وزوجته. قمة هذا التقدير كانت في العام 2010، حينما ذهب مبارك بنفسه لاستقبال سلطان البهرة في مطار شرم الشيخ.

بسبب هذا القرب من مبارك، واجه البهرة في 2011 هجوماً عنيفاً من الصحافة والتيارات السياسية والدينية. وبعدما كانت الحكومة تُغلق لهم شارع الأزهر في 2010، ليسيروا في موكب يضم المئات من أفراد الطائفة، يتقدمهم رئيس الطائفة في سيارته المرسيدس وفي حراسة الحرس الرئاسي، احتفالاً بعيد التعزية (ذكرى استشهاد الامام الحسين)، عادوا مرة ثانية إلى التخفي. فقد ترافق صعود التيار الإسلامي و"الاخوان" للحكم، مع موجة تحريض طائفي ضد الشيعة، لم تميز بين الاسماعيلية والاثني عشرية.

اختفى البهرة من المشهد، بل وتوقفت معظم أنشطتهم في مجال ترميم الآثار، حتى العام 2014، حينما التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي، فضل الدين ابن محمد برهان الدين، الذي ورث كرسي السلطان عن أبيه. وقتها، تبرع سلطان البهرة بحوالى عشرة ملايين جنيه لصندوق "تحيا مصر". بعد الزيارة، عاد البهرة للظهور في محيط القاهرة الفاطمية، والصلاة في مسجد الحاكم بأمر الله، لكن هذه المرة تحت حراسة مشددة من رجال الأمن. كما تراجعت الحملة الاعلامية ضدهم، بعد تصريح الرئاسة أكثر من مرة بالدور الايجابي للبهرة في مصر.

آخر زيارة رسمية لسلطان البهرة، كانت الأسبوع الماضي، حينما التقى بالسيسي، وتبرع بعشرة ملايين جنيه أخرى لصندوق "تحيا مصر"، كما أعلن عن مجموعة من المشاريع لصيانة مراقد آل البيت، أبرزها ترميم وتجميل كرسي السيدة نفيسة، وتجديد نظام إضاءة مسجد السيدة زينب في القاهرة.

تستحق طائفة البهرة، ومعها طوائف الاسماعيلية، المزيد من الدراسة والتحليل، ليس فقط بسبب معتقداتهم الدينية والميتافيزيقية، بل لقدرتهم على الوجود والاستمرار منذ مئات السنين، والحفاظ على جذورهم وارتباطهم بمنبع عقيدتهم، القاهرة الفاطمية، وفي الوقت ذاته، التحليق من مكان إلى آخر، لمكان وزرع أنفسهم في كل أرجاء مختلفة، مقدمين تجربة خاصة في البقاء واستمرار طوائف الأقليات، فيما تعاني الأقليات التهميش والنبذ والإبادة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها