في كل بلد يسعى البهرة إلى دخولها، يطرقون أولاً الأبواب الرسمية عبر زيارة الحاكم وتقديم الهدايا والتبرعات للحكومات وشعوب تلك البلدان. يلتزمون بعدم العمل في السياسة ولا يسعون إلى نشر مذهبهم، لا يختلطون أو يتزوجون من أهل تلك البلدان، ويرفضون التعامل مع الصحافة والإعلام. طوال وجودهم في مصر، لم يمارسوا أي نشاط إعلامي سوى في العام 1993، حينما أصدروا كتيباً صغيراً بعنوان "مسلمون فاطميون"، تضمن توثيقاً لكل انشطتهم الخيرية وعمليات ترميم الآثار التي مولوها في مصر ودول شمال أفريقيا حيث آثار الفاطميين القدامى.
بعد ثورة يوليو1952، حاولت طائفة البهرة دخول مصر بشكل رسمي، من خلال ترتيب لقاء بين سلطان البهرة الدكتور محمد برهان الدين، والرئيس جمال عبد الناصر، لكن سياسة القبضة الحديدية لدولة ناصر في ذلك الوقت، والتي كانت تحارب أى جماعة دينية، حالت دون إتمام اللقاء. فحاول البهرة مد أواصر العلاقات الرسمية من خلال التبرع للأزهر وصيانة أضرحة أهل البيت في مصر، حتى منح شيخ الأزهر حسن الباقوري، السلطان محمد برهان الدين، درجة الدكتوراة الفخرية العام 1966، تقديراً لجهوده وتبرعاته لصيانة الجامع الأزهر وعدد من المساجد والآثار الاسلامية في القاهرة الفاطمية. ثم تمكن سلطان البهرة من لقاء عبد الناصر الذي سمح، في الستينات، بعودة نشاط طائفة البهرة بشكل محدود.
أشرقت شمس البهرة، أحفاد الفاطميين، مع مجيء الرئيس السادات، الذي التقي بسلطان البهرة محمد برهان الدين، وتبرع الأخير بعشرات الملايين لصالح تسديد ديون مصر، والإنفاق على ترميم عشرات المساجد والأضرحة. وكان أبرزها الجامع الأقمر، المجاور لمسجد الحاكم بأمر الله، وافتتحه الرئيس السادات بحضور سلطان البهرة. كما كرم السادات، سلطان البهرة، بوسام النيل، وهو أرفع وسام مصري. وفي المقابل، سمح السادات للبهرة بممارسة طقوسهم الدينية في القاهرة الفاطمية، وتحديداً في مسجد الحاكم بأمر الله الذي يحمل قدسية خاصة لدى طائفة البهرة.
إن زرتَ مسجد الحاكم بأمر الله، ستلاحظ وجودهم، حيث الرجال بملابسهم البيضاء الموحدة، والنساء بملابسهم الملونة المزركشة. يحضرون قبل الصلاة بساعة على الأقل، ويصلون كجماعة مُنفصلة في زاوية من زوايا مسجد الحاكم بأمر الله. يؤمن البهرة بأن الحاكم بأمر الله اختفى في أحد الآبار السبعة لمسجده، وأنه سيظهر ذات يوم خارجاً من أحد تلك الآبار. وحتى مجيء الحاكم بأمر الله، فهم يحرصون على حراسة وصيانة تراث أجدادهم الفاطميين بالتعاون مع الدولة واليونيسكو. لكن غالباً ما تثور اعتراضات بعض الأثريين على مشاريع الترميم التي ينفذها البهرة، وهي نقطة خلافية تضاف إلى دورهم منذ سنوات في شراء عدد من العقارات والمباني السكنية المجاورة لمسجد الحاكم بأمر الله، وعلى طول شارع المعز لدين الله الفاطمي.
رغم ملامحهم الهندية الواضحة، ولكنتِهم التي تظهر جليّة عند تحدثهم بالعربية، وانتشارهم في اليمن وعدد من دول الخليج، وقاعدتهم في مدينة بومباي في الهند، يتمسك البهرة بجذورهم المصرية. حتى انهم، في مفارقة غريبة، مشهورن بختان الإناث، وهي العادة المصرية التي لا تعرفها الشعوب العربية والإسلامية الأخرى، بما فيها مسلمو الهند، لكن البهرة يتمسكون بختان الإناث كجزء من ممارستهم العقائدية ورابط بهويتهم المصرية. ورداً على هذه الممارسات بدأت مجموعة من النساء المنتميات إلى مجتمع البهرة، في الولايات المتحدة الأميركية، مبادرة لانهاء عمليات ختان الفتيات داخل مجتمع البهرة خصوصاً في أميركا.
لأسباب غير مفهومة، حمل حسني مبارك احتراماً وتقديراً كبيراً للشيعة الاسماعيليين، ويمكن وصف فترة مبارك بأنها العصر الذهبي لكل طوائف الشيعة الاسماعيليين في مصر. فالشيعة الإسماعيليون النزاريون، بقيادة الآغا خان الرابع، الشاه كريم الحسيني، سُمح لهم بالعمل داخل مصر عبر مؤسسة الآغا خان التى اقامت ودعمت مئات المشاريع الخيرية والثقافية، أبرزها بالطبع المشروع العظيم لحديقة الأزهر الذي تكفلت مؤسسة أغا خان للتراث المعماري بإقامتها في قلب القاهرة. وتبرع السلطان محمد برهان الدين، بعشرات الملايين من الدولارات إلى الحكومة المصرية، طوال عهد حسني مبارك، وحظي بتقدير مبارك وزوجته. قمة هذا التقدير كانت في العام 2010، حينما ذهب مبارك بنفسه لاستقبال سلطان البهرة في مطار شرم الشيخ.
بسبب هذا القرب من مبارك، واجه البهرة في 2011 هجوماً عنيفاً من الصحافة والتيارات السياسية والدينية. وبعدما كانت الحكومة تُغلق لهم شارع الأزهر في 2010، ليسيروا في موكب يضم المئات من أفراد الطائفة، يتقدمهم رئيس الطائفة في سيارته المرسيدس وفي حراسة الحرس الرئاسي، احتفالاً بعيد التعزية (ذكرى استشهاد الامام الحسين)، عادوا مرة ثانية إلى التخفي. فقد ترافق صعود التيار الإسلامي و"الاخوان" للحكم، مع موجة تحريض طائفي ضد الشيعة، لم تميز بين الاسماعيلية والاثني عشرية.
اختفى البهرة من المشهد، بل وتوقفت معظم أنشطتهم في مجال ترميم الآثار، حتى العام 2014، حينما التقى الرئيس عبدالفتاح السيسي، فضل الدين ابن محمد برهان الدين، الذي ورث كرسي السلطان عن أبيه. وقتها، تبرع سلطان البهرة بحوالى عشرة ملايين جنيه لصندوق "تحيا مصر". بعد الزيارة، عاد البهرة للظهور في محيط القاهرة الفاطمية، والصلاة في مسجد الحاكم بأمر الله، لكن هذه المرة تحت حراسة مشددة من رجال الأمن. كما تراجعت الحملة الاعلامية ضدهم، بعد تصريح الرئاسة أكثر من مرة بالدور الايجابي للبهرة في مصر.
آخر زيارة رسمية لسلطان البهرة، كانت الأسبوع الماضي، حينما التقى بالسيسي، وتبرع بعشرة ملايين جنيه أخرى لصندوق "تحيا مصر"، كما أعلن عن مجموعة من المشاريع لصيانة مراقد آل البيت، أبرزها ترميم وتجميل كرسي السيدة نفيسة، وتجديد نظام إضاءة مسجد السيدة زينب في القاهرة.
تستحق طائفة البهرة، ومعها طوائف الاسماعيلية، المزيد من الدراسة والتحليل، ليس فقط بسبب معتقداتهم الدينية والميتافيزيقية، بل لقدرتهم على الوجود والاستمرار منذ مئات السنين، والحفاظ على جذورهم وارتباطهم بمنبع عقيدتهم، القاهرة الفاطمية، وفي الوقت ذاته، التحليق من مكان إلى آخر، لمكان وزرع أنفسهم في كل أرجاء مختلفة، مقدمين تجربة خاصة في البقاء واستمرار طوائف الأقليات، فيما تعاني الأقليات التهميش والنبذ والإبادة.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها