الجمعة 2018/07/20

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

"الأمير السعيد".. صراع أوسكار وايلد مع ذاته

الجمعة 2018/07/20
"الأمير السعيد".. صراع أوسكار وايلد مع ذاته
"كل رجل يقتل الشيء الذي يحبه... وبعضهم تخنقهم أيادي الشهوة"
increase حجم الخط decrease
"أيها السنونو الصغير العزيز... أنت تحكي لي أشياء مذهلة. لكن الأكثر غرابة هو معاناة الناس. لا يوجد لغز أكثر استغلاقاً من الشقاء. طر فوق المدينة وأخبرني بما تراه هناك".

ربما لا توجد قصة للأطفال أكثر تعاسة من "الأمير السعيد"، التي كتبها أوسكار وايلد، حين رزق بابنه الأول. فالتمثال الذهبي للأمير الذي لم يعرف الحزن في حياته أبداً، والمنتصب على عمود في وسط المدينة، تسقط قطرات دموعه من دون أن يدري به أحد. وحده السنونو عرف بشقائه. إلا أن قصة وايلد تلك، وهو المعروف بحياة العربدة والبذخ، وبمعاداته للتزمت الفيكتوري والدين والمنطق، لم تكن مأسوية فحسب، بل وأخلاقية إلى أقصى حد. فالتمثال، الذي يطلب من الطائر اقتلاع الجواهر من عينيه لإطعام الفقراء، ويبذل قطعة بعد قطعة من جسده لأجل الآخرين، ينتهي قلبه في المزبلة. أما السنونو الذي يؤجل سفره إلى مصر المشمسة أياماً، ليقف إلى جانب صديقه، فيداهمه الشتاء، ويموت.

منتصف الشهر الماضي، انطلق في الصالات البريطانية، فيلم "الأمير السعيد"، لمخرجه وكاتبه، روبرت إيفيرت، والذي قام بدور البطولة أيضا. وربما لا خيار مناسباً أكثر من عنوان الفيلم الذي يتناول السنوات الأخيرة والمريرة لوايلد في المنفى، حتى وفاته المبكرة العام 1900. فالمفارقة التي يتضمنها عنوان القصة، وعنوان الفيلم أيضا، بين السعادة المعلنة وواقع الشقاء، هي واحدة من حيل وايلد الأدبية، فهو لطالما تلاعب بالأضداد، لإثارة السخرية، وكذا صدم جمهوره برياء المجتمع.


يلخص هذا التناقض حياة وايلد وأعماله. فالكاتب الإيرلندي، الذي جال الولايات المتحدة وكندا، في بداية حياة المهنية، للتبشير بـ"الجمالية" التي ترى في المتعة هدف الفن الوحيد، كانت كتاباته تشي بعكس كل ما نادى به. فكتابه عن الاشتراكية ودعوته إلغاء الملكية الخاصة، ومسرحياته الاجتماعية الناقدة للبرجوازية الإنكليزية، تعكس حساً عميقاً بالمسؤولية الأخلاقية والسياسية. وليس هذا فحسب، فالرجل الذي قادته علاقته الغرامية بمحبوبه اللورد ألفريد دوغلاس، إلى السجن لمدة عامين بتهمة "اللواط"، وفقدان كل ممتلكاته، وحرمانه من زوجته وولديه، كان لأعماله بُعد ديني خاص. فمن أجل أن يصبح أي شيء حقيقة، عليه أن يكون دينياً أولا، كما يقول، والدين الذي كان يراه مناسباً هو دين لهؤلاء الذين "لا يستطيعون" أن يؤمنوا.

تدور أحداث الفيلم في باريس ونابولي، اللتين تنقل بينهما وايلد، مفلساً ومتخفياً، بعد مغادرته السجن في إنكلترا التي تركها ولم يعد إليها أبداً. ويقفز السرد بين علاقة وايلد المتخيلة، بمتسولين في باريس، وتداعيه الجسدي، وتقلباته المزاجية الحادة، هناك، وبين الرجوع إلى ومضات من ذاكرة حياة الشهرة التي عاشها في لندن. ويركز المخرج في قفزاته بين الماضي والحاضر، على التراجيديا الفردية التي من الممكن أن يجلبها الحب، والدمار الذاتي الذي تتضمنه الرغبة، "فكل رجل يقتل الشيء الذي يحبه... وبعضهم تخنقهم أيادي الشهوة". يرسم الفيلم صورة مسيحانية لوايلد المصلوب، لكن عذاباته التي يتحملها ليست بسبب ظلم المجتمع له، أو بغرض فدائه، بل نتيجة لرغباته المدمرة. تتسق نغمة اللوم الذاتي، والمسحة الرومانتيكية للحب المدمر، في الفيلم، مع مضمون خطابات وايلد من السجن، المنشورة بعنوان "من الأعماق". ففي وحدة الزنزانة، ومهانتها، يقلب الكاتب الساخر، قناعاته عن "مبدأ المتعة"، بالكامل، ويرى في الألم ضرورة للتطهر والخلاص.

يركز فيلم "الأمير السعيد" على المأساة الشخصية وصراع الفرد مع ذاته، خلافاً للفيلم الإنكليزي الأقدم عن الكاتب، "محاكمة أوسكار وايلد". فالفيلم الأول، الذي يوظف مقاطع من قصة "الأمير الصغير" أيضاً، يركز في المقابل على الصِّدام بين الفرد والمجتمع، والصراع بين مفاهيم مختلفة عن الأخلاق وقيم الجمال والمتعة، ويصور الشقاء بوصفه منتجاً للقمع الاجتماعي، وضيق الأفق، لا طبيعة الفرد.

في المشهد الأخير من فيلم "الأمير السعيد"، كما في الحقيقة، يستدعي أصدقاء وايلد، قساً من دبلن، ويتحول وايلد إلى الكاثوليكية على فراش الموت، فالشقاء كان طريقه إلى الخلاص (ولا عجب أن يكون القس من رهبانية "المتألمين" دون غيرها). وحين يسأله القس: "أين حولت نظرك عن الرب؟"، يرد أوسكار من غيبوبته في "كلابهام جنكشن" وهي محطة القطار حيث بصق عليه المسافرون حين نُقل مقيداً من سجن إلى آخر.


وبين كل تلك التناقضات التي يمثلها وايلد، والزوايا الممكنة للنظر إلي مأساته، والمفاتيح التي تقدمها سيرته لفك لغز الشقاء، فإن فيلم "الأمير السعيد" يختتم أحداثه بتنويه عن العفو العام الذي ناله أوسكار وايلد، وخمسين ألف "متهم" ممن أدينوا بالمثلية الجنسية في إنكلترا وويلز بحكم قانون صدر العام 2017. ليذكرنا، وربما بشكل غير مقصود، بأن المجتمع بقوانينه وتقاليده ما زال مصدر الإدانة والعفو، والمنع والإباحة، اليوم كما في الماضي. وأن سر الشقاء ليست مستغلقاً إلى هذا الحد.  

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها