الإثنين 2018/07/02

آخر تحديث: 08:00 (بيروت)

مديح الفشل.. أم التجريب؟!

الإثنين 2018/07/02
مديح الفشل.. أم التجريب؟!
من كتاب المصور الفوتوغرافي إريك كيسلز
increase حجم الخط decrease
ما الذي نقصده بالتحديد حين نصف شخصاً بالفاشل، أو نَسم شيئاً ما بالفشل؟
القاموس يعرّف الفشل على أنه افتقار الى مزايا النجاح، وهذا التعريف بعبارة أخرى، يلامس كل الحالات المحتملة، من التخبط في موقف ما، الى الكارثة بكل ما للكلمة من معنى... لكن هل ما يستطلعه الكاتب والمصور الفوتوغرافي إريك كيسلز في كتابه "أهلاً بالفشل! حوِّل اخطاءك إلى أفكار مفيدة"(*) هو تجريب أم فشل؟ بالطبع يختار الكاتب عنواناً جاذباً وخارجاً عن المألوف، ويلجأ الى تدوين العديد من التجارب، مع دعمها بعبارات لبعض المشاهير لتكون مقنعة، من ونستون تشرشل الذي يعتبر أن "النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل الى فشل من دون أن تفقد حماستك"، أو صموئيل بيكيت الذي يقول "حاولت دائماً. فشلت دائماً. ذلك غير مهم. حاول ثانية. فلتفشل مرة أخرى. فلتفشل على نحو أفضل".

يتمحور الكتاب حول التحلي بالجرأة المطلوبة لإنجاز فشل ما، وحول الاستفادة من الأخطاء وتحويلها إلى مصدر للإلهام، بدلاً من الشعور بالندم لحدوثها. هو كتاب عن المجازفة بإذلال النفس كلياً، في سبيل ابتكار شيء نوعي تماماً. لا نعرف أي نوع من المشاريع المدهشة سينتج عن إعادة تفكيرنا في مفهوم الفشل. لكن مهما كانت النتائج، فإنها ستفجر مفاجأة بلا شك. فالأصالة الحقيقية لا يمكن التنبؤ بها. وكيسلز لا يعير أدنى اهتمام لما هو منجز على نحو دقيق، بل يسعى الى التقاط الناشز والعادي، والأهم من ذلك: "كل ما هو على قطيعة مع ميزة الانسجام المقدسة...".

يهدي الكتاب الى "فن ارتكاب الخطأ"، ويدعو الى الاحتفاء بما هو مخالف للمنطق، اذ تشكل المناظر الحضرية اليوم تجسداً لوحدة النسق واستنساخ النماذج. فنرى المخازن نفسها، العلامات التجارية عينها، ثم الشوارع المطابقة لبعضها البعض، كما المقاهي ومراكز التسوق. إنها مساحات، لو تبادلت أي شيء في ما بينها، فلن يُحدث الأمر فرقاً. لكن الكاتب يدعو الى النظر من كثب، إلى الهفوات في المحال التي تجعل العاديَّ والمملَّ، أمراً رائعاً، رحلات في اللامنطق الذي ينتج جمالاً غريباً، جمالاً ذا عيوب. ومع مرور الوقت، يصبح المتخبط في تصميمه، جزءاً من المنظر المدنيِّ كخطأ يثير الإحراج لكنه في مكانه الصحيح تماماً.



أمثلة كثيرة يتطرق إليها المؤلف، الصور الفوتوغرافية بعدسة مات ستيورات واندريه ثيسن، تذكّرنا بأن المصادفات هي ما نحتاجه في الواقع، إذ تشكل ظرفاً بمقدروك العمل فيه جيداً. فغالبية تلك اللحظات التي نسميها مصادفة، هي في الواقع حال من أحوال إبقاء العينين مفتوحتين. يبدو لوهلة أن ستيوارث يتحلى بموهبة الوجود في المكان واللحظة المناسبين. لكن الواقع عكس ذلك. فهو دائم البحث عن تلك المفارقات والغرائب والظواهر غير المتجانسة في مضمونها، والتي يعبر بها آلاف البشر من دون أن يلاحظوها.

أما ثيسن، فيتحرك على هامش الحياة اليومية للعثور على الجماليات، في زوايا خفية أو مهملة ومواقع لا تحمل أي تمايز. إنه يسعى خلف لحظات بصرية يتحول بها العادي إلى شيء جدير فعلاً بالتذكر. فكل الحركات الفنية الجميلة قوبلت بالرفض في البداية، كما وصفت بالغريبة والقبيحة: التجريد، الدادائية، البانك المتذمر، المُعارض، الغرونج، كما صوت طوم وايتس المغرغر بصورة حادة الى درجة مثالية. وما يقال عن الدادائية، يقال عن عبد الحليم حافظ وفيروز وبيكاسو وألفيس بريلسي وجون لينون، لكن هؤلاء ليسوا فشلاً بقدر ما هم ظواهر، كانوا هوامش وأصبحوا متوناً، كانوا تجريباً مرفوضاً وأصبحوا من العلامات الكلاسيكية، وهناك المفارقة.

بحسب الكاتب، ارتكاب الأخطاء أمر طبيعي. وارتكاب الخطأ نفسه مرتين يترك انطباعاً لدى الآخرين بالإهمال. أما ارتكابه ثلاث مرات، فيضعك على حدود يتعذر تبريره وغفرانه. لكن ارتكاب الخطأ نفسه مراراً وتكراراً، يمكن ان يقرّبك من العبقرية. ويُنسب الى سلفادور دالي قوله: "لا تخشَ الكمال، أنت لن تبلغه أبداً"، ويقول مدرب كرة القدم الأميركية فينس لومباردي: "سنطارد الكمال بلا هوادة، مع إدراكنا جيداً بأننا لن نحظى به.. لكننا خلال هذا المسار سنحظى بالتميز". وبما أننا نخوض في مستنقع الأقوال المبتذلة والمهملة، لا يجب أن ننسى أن هذه مجرد أمثلة منمقة لأناس شهيرين في استرجاعهم الكليشيه المفيد: لا تجعل من فكرة الكمال عدواً لما هو جيد. فالسعي الى تحقيق الكمال يسلبك الشعور بالراحة، بل سترى نفسك نكرة أمام اخفاقاتك. وهذا ليس مزاحاً على الاطلاق. فاللا-كمال هو الأقرب دوماً الى الواقع.

هناك أكوام هائلة من القمامة في العملية الإبداعية: أفكار مرفوضة، جلسات من الجنون الإبداعي بلا أي طائل، صفحات مشطوبة. فكل فكرة حظيت باختبار، رُفضت مقابلها، مئات الأفكار الأخرى. لكن قمامة نصف فارغة لشخص ما، يمكن أن تصبح كنزك نصف الكامل. مجرد أن شيئاً رُفض من شخص ما، فهذا لا يعني أنه خالٍ من الإمكانات.


هكذا، يجد الفنان يواكيم شميد، ضالته في الصور التي يعثر عليها، وهي صور مهملة إما لأنها فقدت من أصحابها الشرعيين، أو ألقيت في القمامة. تتحول الصور عديمة الأهمية بين يديه الى شيء مثير للاهتمام، بعد أن تُجرَّد من سياقاتها وشخصياتها كلياً. يتلاعب الفنان بأحد أكثر أشكال التصوير الفوتوغرافي التي يمكن تخمينها: الصورة المأخوذة في الاستديو. فشميد، عثر على صندوق من نيغاتيف الصور التي أهملها أصحابها، ومقصوصة نصفين بطريقة تمنع إمكانية استخدامها. لكنه لاحظ ان الاستديو قد موضع الأضواء والكاميرا وموضوع التصوير، بالطريقة نفسها تماماً، في كل الصور. لكنه أعاد ترتيب النيغاتيف، اذ جعل كل صنف يتناسب مع نصف آخر غير مألوف، في تناسب بصري مثالي فيه الكثير من الاحتمالات. حوّل شميد ما نبذَه مصوّر فوتوغرافي آخر، الى مجموعة من الصور الفرانكنشاتية المتناغمة. وهنا، هل نسمي ما فعله شميد، فشلاً أم عملاً نفذه عن سابق تصور وتصميم؟! وهو لم يحوّل الأخطاء الى أفكار مفيدة، بل جعل نفايات التصوير عملاً يحظى بالاهتمام والنقاش.

يلاحظ المؤلف أن السواد الأعظم منا في عالم الإبداع، يبحث عن مصادر الإلهام في الأماكن نفسها: "المعارض الفنية، كتب الصور الفوتوغرافية، دور السينما، المواقع، المجلات"، مع أنه يمكن العثور على مصادر الالهام في أي مكان. الفنان الألماني بيتر بيلر، يجد الالهام في أشياء تبدو كأنها لا تبشر بشيء، أي عالم الصحف المحلية. في ذلك العالم، لاحظ شيئاً غريباً، فبزّات رجال الإطفاء مزودة بعاكسات للضوء عالية الوضوح. وجود هذه العاكسات غير متعلق بالذائقة الجمالية، فهي تؤدي مهمة تأمين السلامة الحيوية في أوقات الطوارئ. لكن تعريضها الى فلاش مصور، يجعلها تبدو متفجرة انفجرت. اكتشف بيلر الفن غير المقصود في الصور التي ستُقابَل برفض معظمنا، على اعتبار أنها تعاني خللاً أو أننا لن نلاحظها إطلاقاً، لو كنا ممن يعملون في صحيفة محلية في ألمانيا.

ما يسعى إليه المؤلف هو جموح في كسر الروتين، وقول أي شيء جديد ومغاير، وإن كان مخالفاً للطبيعة والواقع. لكن، إلى متى يصمد هذا التوجه؟ فغداً سيأتي من ينظِّر لفشل الفشل، أو ما بعد الفشل...

(*) صدر عن دار الساقي، ترجمة مازن معروف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها