فيستمد الموضوع، أو المرسوم، وقعه من الغياب الذي ينطوي عليه، والذي يجذب العيون صوبه كما لو أنها تستفهم عما حدث له لكي يتشكل بهذه الطريقة أو تلك. فعند النظر إلى لوحته، لا يمكن سوى الملاحظة بأن الغياب فيها هو أصلها، أو بالأحرى أرومتها، قبل أن تتكثف وتهب الشخطات عليه، وتسويه على شكلٍ يعتريه، وفي الحين ذاته لا يصيبه بالتمام. وعليه، سانح القول أن تمثيل الموضوع في اللوحة هو بمثابة إلمام التشخيط بالغياب من دون إطاحته، ليومض مرةً، ويخفت مرة أخرى. من هنا، الأسود، محدد التمثيل، ينتجه انخفاض الأبيض، وهو محدد الغياب الذي، وبهبوطه، يضحى، إذا صحت العبارة، "البنية التحتية" للمرسوم.
هذا ما يتصل بعلاقة مراد بالموسيقى، بحيث تعاون، وفي عدد من العروض، مع فنانين يعزفون على آلاتهم في حين مزاولته للرسم. إذ إن الموسيقى، التي يعمدون إلى خلقها، تلاقي الغياب في المرسوم، كما لو أنها تستفهم وتتحدث عنه، مثلما أنها توفر لليد الذي تشكله إيقاعاً، فلا تجتاحه بالتشخيط، ولا تضيق عليه بالتمثيل. الموسيقى هي حليفة الغياب الذي يولد منه المرسوم، والموسيقى هي التي تبينه بعد أن تهب وتتجمع فيه الشخطات، وذلك لأنها تحمل شيئاً منه، وهو كون مذهبها لا ينقطع.
نتيجة الموسيقى، يصير رسم مراد فورياً، فيمضي مباشرةً إلى تشكيل الغياب لأن الموسيقى إياها قد تنجح في الإشارة إليه بلا سواده، في تقديمه خالصاً أو قاسياً. عندها، قد تصبح الشخطات في عراك معه، ساعية إلى ليّه أو كسره. لذا، فورية الرسم، وعدا عن كونها تظهر الدراية التقنية لمراد، تبدو أسلوباً لجعل التشخيط بمثابة تبرّج للغياب، بمعنى تزيينه، لكي لا يكون خاماً، وبمعنى تحصينه، لكي لا يكون قابلاً للتهشيم. وبذلك، يتحول إلى حامل المرسوم، أو جداره، الذي يجري تعليقه، أو إيقاف مفعوله عليه.
رهافة كيفورك مراد هي سبيله لرسم لا يخلع الغياب في مواضيعه، ولا يجعله مهيمناً عليها، لكنه يغيره إلى ديماسها الأبيض غير المظلم.
(*) تعرضها "غاليري تانيت" تحت عنوان the space between حتى الأول من آب/أغسطس 2018.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها