الخميس 2018/07/19

آخر تحديث: 12:44 (بيروت)

رسم كيفورك مراد: تشخيط الغياب

الخميس 2018/07/19
increase حجم الخط decrease
ثمة تصور، يرتكز عليه كيفورك مراد لمزاولة الرسم، وهو أن هذا الفن بمثابة صنعة قوامها الرهافة، بحيث أنها تستلزم حساً للاقتراب من مواضيعها، ولتلقيها برقة وخفة، قبل أن تذهب إلى التعبير عنها على أساس مهابتها أو إجلالها، أي من دون أن تغلبها من خلال القدرة القاطعة على تمثيلها.

وربما يكون لهذا التصور، مشهد، وهو وقوف الرسام أمام لوحته، وشروعه في بنائها بالإنطلاق من تشخيطها السريع، وليس من تخطيطها المتمهل. وبين شخطة وأخرى، اليد تمسك رجفة فرشاتها، وحاملها يتراجع إلى الخلف قليلاً. فهناك تعامل مع اللوحة، كأن أي موضوع من مواضيعها بمقدوره أن يقبض على رسامها في حال لم يحتط منه، وفي الوقت نفسه، لم يجعله وجيهاً. ولذلك، من الممكن القول أن الرهافة في الرسم تنطوي على فزع بعينه، فزع من اللوحة وفزع من موضوعها، صحيح، لكنه فزع من جعل الرسم سالباً لهما أيضاً.

على أن الحيطة من الموضوع، وإكباره، وكما تشير لوحات مراد أو جدارياته(*)، يؤديان إلى إيفائه حضوره، وهذا ليس من خلال اتصافه بسمات عديدة كالكثافة، أو بما تدعوه المدونة النقدية المتقادمة بـ"الانسياب"، وهو فعلياً هبوب، بل استناده إلى الغياب. ففي مجموع تشخيطه، هناك فراغ، ولونه أبيض، وفي الكثير من الأحيان، يبدو محرك الموضوع، لا سيما عندما يتعلق بالفرار على إثر التشريد، وعندما يبدو على وشك التواري، ليس بسبب اعتلال في تمثيله، بل على العكس، بسبب متانة هذا التمثيل، الذي لا يستوي على النسخ طبعاً، بل على تخيل لمعناه، أو على تشبيهه.


فيستمد الموضوع، أو المرسوم، وقعه من الغياب الذي ينطوي عليه، والذي يجذب العيون صوبه كما لو أنها تستفهم عما حدث له لكي يتشكل بهذه الطريقة أو تلك. فعند النظر إلى لوحته، لا يمكن سوى الملاحظة بأن الغياب فيها هو أصلها، أو بالأحرى أرومتها، قبل أن تتكثف وتهب الشخطات عليه، وتسويه على شكلٍ يعتريه، وفي الحين ذاته لا يصيبه بالتمام. وعليه، سانح القول أن تمثيل الموضوع في اللوحة هو بمثابة إلمام التشخيط بالغياب من دون إطاحته، ليومض مرةً، ويخفت مرة أخرى. من هنا، الأسود، محدد التمثيل، ينتجه انخفاض الأبيض، وهو محدد الغياب الذي، وبهبوطه، يضحى، إذا صحت العبارة، "البنية التحتية" للمرسوم.


هذا ما يتصل بعلاقة مراد بالموسيقى، بحيث تعاون، وفي عدد من العروض، مع فنانين يعزفون على آلاتهم في حين مزاولته للرسم. إذ إن الموسيقى، التي يعمدون إلى خلقها، تلاقي الغياب في المرسوم، كما لو أنها تستفهم وتتحدث عنه، مثلما أنها توفر لليد الذي تشكله إيقاعاً، فلا تجتاحه بالتشخيط، ولا تضيق عليه بالتمثيل. الموسيقى هي حليفة الغياب الذي يولد منه المرسوم، والموسيقى هي التي تبينه بعد أن تهب وتتجمع فيه الشخطات، وذلك لأنها تحمل شيئاً منه، وهو كون مذهبها لا ينقطع.

نتيجة الموسيقى، يصير رسم مراد فورياً، فيمضي مباشرةً إلى تشكيل الغياب لأن الموسيقى إياها قد تنجح في الإشارة إليه بلا سواده، في تقديمه خالصاً أو قاسياً. عندها، قد تصبح الشخطات في عراك معه، ساعية إلى ليّه أو كسره. لذا، فورية الرسم، وعدا عن كونها تظهر الدراية التقنية لمراد، تبدو أسلوباً لجعل التشخيط بمثابة تبرّج للغياب، بمعنى تزيينه، لكي لا يكون خاماً، وبمعنى تحصينه، لكي لا يكون قابلاً للتهشيم. وبذلك، يتحول إلى حامل المرسوم، أو جداره، الذي يجري تعليقه، أو إيقاف مفعوله عليه.

رهافة كيفورك مراد هي سبيله لرسم لا يخلع الغياب في مواضيعه، ولا يجعله مهيمناً عليها، لكنه يغيره إلى ديماسها الأبيض غير المظلم.


(*) تعرضها "غاليري تانيت" تحت عنوان the space between حتى الأول من آب/أغسطس 2018.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها