الخميس 2018/07/19

آخر تحديث: 12:32 (بيروت)

التاريخ المصري كما تسرده ماري روزنتال

الخميس 2018/07/19
التاريخ المصري كما تسرده ماري روزنتال
رغم انتهاء الحرب، لم يتوقف اضطهاد المصريين من أصول أجنبية
increase حجم الخط decrease
الأقدمون، الحكاؤون منهم -وليس كل متقادم حكاء- لا يسردون الماضي؛ يوثقون ذواتهم في القصص، لذلك تبدو مروياتهم -مهما بلغوا من الجاذبية والصدق- مبتسرة.

لكن نادية كاملة وأمها نائلة -ربما بتواطؤ أو بغير تواطؤ- تسلكان طريقًا آخر، أكثر جاذبية، لتوثيق الماضي. فالكتاب الصادر حديثًا تحت عنوان "المولودة"*، ويحمل في غلافه توقيع نادية، ليس سوى تدوين لما أمْلَته الأم من سيرتها، بلا تدخل الابنة، ولو بإعادة صياغة ما روته والدتها من حكايات عن طفولتها وشبابها وكهولتها. أما نائلة كامل، المولودة في مصر، باسم ماري إيلي روزنتال، لأب يهودي من أصول أوكرانية وأمّ إيطالية، فلم توثق في قصتها إلا ذوات الآخرين.

ولدت ماري العام 1931، وتوفيت العام 2012، لكن الكتاب يغطي ما عاشته حتى العام 2001، حين بدأت إملاء سيرتها الذاتية على ابنتها، وهي في السبعين من عمرها، ويرصد ذكرياتها عن طفولتها إبان الحرب العالمية الثانية، ونضالها السياسي خلال فترات الاحتلال الإنكليزي وحكم الملك فاروق وقيام ثورة يوليو وما تلاها من أحداث، حتى عصر الرئيس الأسبق حسني مبارك. لكن أهمية الكتاب لا تبرز فقط من خلال معايشتها لتأسيس الجمهورية المصرية وما خاضته الدولة بعد ذلك، ولا لسجنها المتكرر بسبب نشاطها السياسي وميولها الشيوعية، أو لاقترانها بالمناضل سعد كامل الذي أسس الثقافة الجماهيرية، وإنما أيضًا لأنها واحدة من أبناء الجاليات الأجنبية التي شهدت أخر أيام مصر الكوزموبوليتية.

كومونة الطليان
كان المجتمع المصري، حتى زمن ليس ببعيد، كوزموبوليتانياً، لكن الكتاب يعكس صورة أخرى غير سائدة، عن شكل العلاقات داخل ذلك المجتمع متعدد الجنسيات، والذي في ما يبدو، لم يشهد اختلاطا حقيقيًا بين أجناسه المختلفة، لا على المستوى العرقي، ولا حتى على مستوى التعاملات اليومية الطبيعية، باستثناء التعاملات ذات الطابع الاقتصادي. وكأن المجتمع المصري انقسم إلى فئتين كبيرتين: المصريون، والأجانب (الذين ينقسمون فئات صغيرة تشكل في مجملها المجتمع الأجنبي في مصر).

ولعل ذلك ما يبرز أهمية تلك الحكايات التي تسردها نائلة/ماري. ففي حين يشغل مجتمع الأجانب مكانة هامشية في العديد من الدراسات التي تناولت المجتمع المصري في تلك الفترة، فإنهم يتصدرون المشهد في قصتها، ويشكلون عبر حكايات كثيرة متناثرة صورة أكثر وضوحًا وخصوصية عن حياتهم.

محنة الخواجات
عانت الجالية الإيطالية، مثلاً، أشد المعاناة من الاحتلال الإنكليزي الذي كانت حكومته تحارب موسوليني وهتلر في أوروبا، خلال الحرب العالمية الثانية، وتقهر مواطنيهم في القاهرة وغيرها من المدن المصرية. فقد اعتقل الإنكليز الرجال الإيطاليين كلهم، كما صادروا أملاك الحكومة الإيطالية، بما فيها المدارس التي حولت لاحقًا إلى معتقلات لكبار السن والمرضى. كذلك، توقفت حركة السفر بين روما والقاهرة، الأمر الذي أسفر عن مئات العالقين في روما، ممن كانوا يزورونها سريعًا، سواء كانوا بالغين، أو أطفالاً من دون عائلاتهم.

تحكي "نائلة" عن والد صديقتها "مارتشيلا"، الذي اعتقل في الإسماعيلية، ثم نقل لاحقًا ليكمل سجنه في مدرستها وسط القاهرة: "بقينا ننزل أنا ومارتشيلا نعمل نفسنا بنتمشى على الرصيف قصاد مبنى مدرستنا، وباباها يستنانا في الشباك ويشاور لنا، ويبعت لها قبلات على طراطيف صوابعه". لكن سجن الوالد لم يكن النكبة الوحيدة لتلك العائلة الإيطالية: "مارتشيلا كان عندها أخ وأخت أكبر منها، راحوا إيطاليا في الصيف واتزنقوا هناك. المدراس الإيطالية في مصر كانت تنظم رحلات للتلاميذ، يقضون شهراً أو شهرين يصيّفون في معسكرات في إيطاليا، ينبسطوا ويعملوا لهم نوع من الدعاية للفاشية وغسيل مخ ويحببوهم في النظام الفاشيستي. الحرب ابتدت في صيف 1939، إنجلترا وإيطاليا قطعوا العلاقات، والطلبة ماعرفوش يرجعوا مصر. إخوات مارتشيلا عاشوا في إيطاليا خمس سنين، الحرب بطولها، معتمدين على مساعدات من الصليب الأحمر أو الفاتيكان، لا هم قادرين يرجعوا، ولا أهلهم يقدروا يروحوا لهم"!(*)

الملك.. ناصر
ورغم انتهاء الحرب بهزيمة هتلر وموسوليني، لم يتوقف اضطهاد الأجانب والمصريين من أصول أجنبية. إذ أن هزيمة أخرى لاحقة، مُنيت بها الجيوش العربية في فلسطين العام 1948، جعلت من أجانب مصر كبش فداء الملك وأعوانه لامتصاص غضب المصريين جراء الهزيمة. فقادت داخليته حملة للقبض على الشيوعيين في أعقاب العام 1949، لم تميز بين الصهيوني وغير الصهيوني: "كان في خواجات ومصريين بالمئات في المنظمات الشيوعية، لكن شعور كتير من المصريين ضد الأجانب كان بيزيد بسبب الإنجليز والملك والاحتلال، وضد اليهود بسبب إنشاء دولة إسرائيل، والحكومة والرجعية كان بيستغلوا الشعور دا ويقبضوا على الشيوعيين والخواجات واليهود بدون تمييز مين صهيوني. الطلاينة الشيوعيين اللي في مصر عملوا مؤتمر واتفقوا إن مش ممكن الخواجات يلعبوا دور حقيقي في البلد في الأجواء دي لأن مهما يقولوا عن نفسهم إنهم وطنيين ومصريين، مفيش مصداقية بعد اللي حصل في فلسطين، وقرروا في المؤتمر إن كل واحد يروح لبلد أصله علشان يكملوا الكفاح بشكل يكون فيه مردود، يعني مش كفاح ع الفاضي".

لكن ذلك القرار الاختياري للرحيل عن مصر، تحول، بعد القبض على الأجانب، إلى إجبار مارسته السلطة، منذ الملك وحتى بعد ثورة يوليو وقيام الجمهورية.

وتجدر الإشارة هنا، إلى أن الكثير من ذووي الأصول الأجنبية في مصر، صاروا مصريين بحق المولد، منذ جيل على الأقل. لكن كثيرين منهم، ومن بينهم ماري روزنتال، لم يحصلوا على الجنسية المصرية. وتوثق ماري لموقف مأساوي تعرضت له إحدى المسجونات السياسيات، في بداية حكم عبد الناصر، أثناء ترحيلها إلى أوروبا: "البنت التانية بقى رافضة تتحرك. يلا. مفيش فايدة، مش راضية تتحرك.(تقول:) مش عايزة أمشي. إجراء غير قانوني. أنا مكافحة من أجل الشعب. أنا بكافح علشانكم. في حالة هياج عصبي. تروح على الشباك وتصرخ وتنادي على الناس في الشارع: أنا مصرية، عاوزين يطردوني من البلد، دا غير قانوني، أنا مصرية، دا غلط، دا ظلم. بعتوا بقى يجيبوا رجالة البوليس وفي النهاية جرجروها على السلم، شالوها من إيديها ورجليها لغاية ما حطوها في العربية، ما مشيتش برجلها شالوها شيل، واستمرت تقول هتافات وشعارات مجموعة "م.ش.م" "تحيا الطبقة العاملة".

لماري نفسها ولعائلتها قصة لا تقل مأساوية عن موقف زميلتها في السجن. فأبوها المولود في القاهرة، لمهاجر يهودي من أصول أوكرانية، رفض أن يترك القاهرة ويهاجر إلى أوروبا إبان الحرب العالمية، لأنه لا يملك عائلة في أي بلد آخر سوى مصر. فاضطر إلى التحول إلى المسيحية، حتى لا يواجه اضطهاد النازيين إن ربح رومل الحرب ودخل القاهرة، ذلك الأب ذاته بعدما بلغ سن الستين، وجد نفسه معرضًا للترحيل خارج البلاد، خلال حكم جمال عبدالناصر، وهو القرار الذي أذعن إليه، فسافر صحبة زوجته إلى إيطاليا.

ماري هي الأخرى، ورغم تحولها إلى الإسلام بعدما اقترنت بالناشط السياسي سعد كامل -ابن أخت السياسي المعروف فتحي رضوان، الذي كان وزيرًا للإرشاد الحكومي في حكومة يوليو- واجهت خطر الترحيل، لولا أنها ناضلت طويلًا للحصول على الجنسية المصرية حتى نالتها أخيرًا، على أساس زواجها من مصري، وليس لأنها تستحق الجنسية بحكم المولد!

الشيوعية الساذجة اللئيمة
لم تكن ماري، ابنة السبعة عشر عامًا، منخرطة بما يكفي في المجتمع من حولها، حتى اصطحبتها إحدى صديقاتها إلى النادي الإيطالي في وسط القاهرة. هناك، تعرفت على الشيوعية، وانضمت إلى الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني "حدتو"، واعتقلت خلال الفترة الملكية، وسُجنت خمس سنوات في عهد جمال عبد الناصر.

كانت ماري مسؤولة، في بادئ الأمر، عن تسليم المنشورات السياسية لمن يُوزعها على المواطنين. ورغم أنها لم تكن تحسن قراءة العربية في تلك السن، لكنها لم تكن راضية عن محتوى تلك المنشورات: "كتابة كتير، وضيقة. مش مثلاً يطبعوا بحروف كبيرة شعارات وأفكار محددة، لا، صفحتين تلاتة، وكتابة صغيرة وكلام كتير، مدبسة من هنا ومن هنا. يلا معلش، كانت طريقة بدائية عملية نشر الفكر الشيوعي في المجتمع المصري. أعتقد إن قليلين اللي كانوا بيقعدوا ويقروا المنشور دا من الأول للآخر".

لكن تلك البدائية التي وسمت الآلية الساذجة التي اعتمدتها النخبة لنشر الوعي السياسي بين المصريين، (ألبير قصيري مثلاً كان دائم السخرية من جماعة الفن والحرية الذين يصدرون مطبوعاتهم بالفرنسية في مجتمع يعاني سواده الأعظم من الأمّية)، ليست وحدها النقطة السلبية التي سجلتها نائلة كامل، عن حركتها والحركات الشيوعية الأخرى. إذ أشارت، في أكثر من موضع، إلى نوع من الديكتاتورية المدهشة التي مارستها تلك الحركات ضد أعضائها. وتحكي عن محاكمة عقدتها "حدتو" لعضو يدعى "جوليو لاوري"، كان يعمل صحافيًا في "الشركة المصرية للإعلانات" (جريدة الجمهورية حاليًا)، لأنه عبَّر لزميل آخر عن استيائه من أداء الحركة، وهذه كانت تهمة اسمها "اتصالات جانبية"، وهي توحي بأن مرتكبها يتعاون مع حركات سياسية أخرى معادية لحركته، لكنهها فعلياً كانت تعني "الاتصالات بين الأعضاء وبعضهم البعض"، فالشكاوى "والآراء لازم تكون عن طريق التصعيد إلى المسؤولين الأعلى في الخلية".

لكن ذلك الحادث يبدو أقل وطأة من آخر سجلته نائلة، عن مشاجرة وقعت بين اثنتين من المسجونات الشيوعيات التابعتين لحركة "م.ش.م"، داخل المعتقل: "أوديت بتعاملهم بطريقة مش مظبوطة: ممنوع دا، ولازم دا، زي ناظرة المدرسة، فيه شيء من الـ- "hierarchie" الرُتب والمقامات- حتى في الحياة العادية، تقول لهم: "لما أنا أتكلم"، يعني لما "أوديت" تتكلم، ما حدش يقاطعها وما حدش يعترض، فابتدت (...) واحدة زميلة حطت المشط في مكان فـ"أوديت" قالت للزميلة: دا مش مكان المشط، حطي وشك في الحيط. والزميلة سمعت الكلام وحطت وشها في الحيط"!


مع كاريوكا
سجلت نادية كامل، حكايات أمها كلها بالعامية المصرية، لكنها لجأت إلى لغة حيادية، لا تمثل صعوبة على قرّاء العربية من غير المصريين، أو ربما لم تقصد ذلك. وكانت لهجة الأم العربية حيادية نظرًا إلى تعلمها العربية في وقت متأخر، لكن ذلك الاختيار، باللجوء إلى اللغة العامية، بدا مناسباً جداً لإظهار النبرة الودودة لشخصية نائلة كامل، وأضفى الكثير من الحميمية على السرد، وهو الأمر الذي يعضده اهتمام ماري بتوثيق ذوات كل من قابلتهم خلال مشوارها الطويل. ولعل أكثر ما يوضح ذلك الأسلوب، وتلك النية، طريقتها في وصف شخصية تحية كاريوكا، التي قضت بصحبتها أربعة أشهر في السجن، إذ اعتقلتا معًا على خلفية الانضمام إلى حركة أنصار السلام.

"تحية كاريوكا تدخل السجن، فالسجن كله يقف على رجل، المسجونات، سياسيات وغير سياسيات، السجانات بكل الرتب طول النهار يحاولوا يفوتوا قدام زنزانتها أو يلمحوا شكلها من بعيد. الظباط كمان، بل مدير السجن نفسه، ييجي لها لحد عندها في الزنزانة. ومش بس يسلموا عليها ويرحبوا بيها، يعرضوا عليها خدماتهم ويسألوها محتاجة إيه".

وتتابع: "تحية كاريوكا أصبحت رئيسة السجن وقعدت تحمينا أنا و"ميمي" وسميرة مرات أحمد طه. مديرة وريسة بطبيعتها وحكاية التغذية في قلبها، مسؤولة عن تغذية الإنسانية كلها مش بس ضيوفها في البيت. ما كانتش عيانة، لكن بعتت تجيب لبن ولمون وسكر زيادة من مستشفى السجن. إحنا ما كانش ممكن نبعت نجيب. وجابت كاكاو كمان، وبناء على طلبها جابوا لها قروانة (إناء من الألومنيوم) لبن كاملة من المستشفى. (...) تحية تصحى الصبح تيجي لها قروانة لبن من المستشفى، وبأمرها يفتحوا لنا الزنازين ونروح عندها.
لازم تمرينات كل يوم وإلا عضلاتي حتنشف ومش حقدر أرقص.
نعمل معاها شوية تمارين، ورّتنا ازاي الواحد يحرك البطن يمين دائريًا وبعدين شمال دائرياً".

وتكمل: "حَصلِت كمان على سبرتاية (موقد صغير يعمل بالسبرتو) –طبعًا ممنوعة- بعد الرياضة تحط قروانة اللبن على السبرتاية واللبن ياخد مدة طويلة لغاية ما يغلي على سبرتاية، في الوقت دا نقعد حواليها نسمعها. اللبن يغلي تحط الكاكاو، وتقلب وتقلب وتقلب وهي بتحكي، وتوزع علينا بالكوز في كبايات بلاستك هي برضه جابتهم ووزعتهم علينا وتبعت تجيب كيكة أو بسكويت. مُتصرفة في الحاجات دي وما تاكلش لوحدها أبدًا. فاتحاها مَضْيَفة في زنزانتها، تحكي لنا حواديت ونسألها على حاجات. دا بينما احنا المفروض محبوسين على ذمة التحقيق وزنازين انفرادي وأحكام عرفية، فترة تكدير وعزل قبل الحكم والظروف مشددة، ما كانش فيه زيارات ولا فيه حاجة تخش لنا ولا حاجة تطلع من عندنا، وما عندناش أخبار، والأكل ييجي لنا من المتعهد على حسابنا".

وتضيف نائلة: "فِطار المتعهد طاستين عمود معدني بإيد، وجواه فطار الصبح بيضتين مسلوقين وكام زتونة وحتة جبنة بيضا أو قشطة بالعسل أو حتة جبنة برغيف عيش، أو حلاوة، فطار المتعهد أكل مش طازة، بالذات البيض، عملياً تحية كاريوكا كانت بتعملنا كاكاو الصبح ونفطر كاكاو باللبن في السجن بعد ما نرقص بلدي. تحية كانت متماسكة ما اتهزتش من السجن مع إن مفهومها السياسي كان عام جدًا، وبفضلها الأربع أشهر دول عدوا بسرعة وبدون صعوبة تقريبًا".

(*) صدر الكتاب في القاهرة عن دار "الكرمة"، بدعم من مؤسسة "روزا لوكسمبورغ".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها