الأربعاء 2018/07/18

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

النشيد الوطني المصري من الكباريه إلى المستشفى

الأربعاء 2018/07/18
النشيد الوطني المصري من الكباريه إلى المستشفى
increase حجم الخط decrease
بلغت الإدارة المصرية مرحلة، أصبحت معها قراراتها محل سُخرية وانتقاد الجميع، بمن فيهم المتحمسون لهذه الإدارة. حتى إن تياراً وطنياً يتشكل من إعلاميين وصحافيين، يطلقون على أنفسهم لقب "الفاشيون الشرفاء"، انتقدوا مؤخراً قرار وزيرة الصحة بعزف السلام الجمهوري وقَسَم الطبيب عبر الإذاعة الداخلية في المستشفيات، لزرع وتنمية قيم الانتماء وحب الوطن داخل الأطباء والمرضى والممرضات... ومعهم القطط التي ترعى في المستشفيات المصرية وتتغذى على المخلفات الصحية.

فجّر قرار الوزيرة، موجة سخرية ونقد لم تتوقف عند الانترنت، بل امتدت حتى إلى عادل إمام الذي استفزه القرار، وتحول الأمر حفلة هستيريا من التحفيل والتحفيل المضاد. قرار الوزيرة يأتي في ظل إقرار الموازنة الجديدة للدولة، والتي شهدت تخفيضاً جديداً في المصروفات المخصصة لبند الرعاية الصحية، في استراتيجية يمكن فهمها كتحول جديد في الثقافة العلاجية المصرية: من العلاج بالقرآن، الذي ساد في سنوات توغل الإسلام السياسي، إلى العلاج بالسلام الجمهوري.

القرار كان أيضاً فرصة، لمحبي وصف النظام بالفاشية، لتأكيد أطروحتهم عن تنامي الفاشية في بنية الدولة. وصَدَم الجميعَ تصريحُ إبراهيم الجارحي، أحد نجوم اللجان الإلكترونية ومؤيدي النظام، إذ أعلن بكل فخر أنه من الفاشيين الشرفاء، ومع ذلك يرى في القرار إهانة للنشيد الوطني، لأن المرضى والأطباء لن يمكنهم إعطاء النشيد الوطني الاحترام الواجب.

طوال سنوات دراستي في المدارس المصرية، كنا نحيي النشيد الوطني كل صباح في فقرة إجبارية. المدارس هي أشهر الأماكن العامة التي يُجبَر الطلاب والمدرسون فيها على تحية النشيد الوطنى، تليها، وللمفارقة، الكباريهات والملاهي الليلية. وسابقاً، حينما كانت تقام المباريات الرياضية بحضور الجمهور، كان النشيد الجمهوري يُعزف، ثم أخيراً انضمت المستشفيات إلى الكباريهات تعزيزاً للروح الوطنية.

أذكر منذ سنوات بعيدة، حينما سهرت حتى شروق الشمس في أحد الكباريهات، واندهشت في ختام الليلة، حينما عزفت الفرقة النشيد الوطني، والمغني الذي كان يغني بحماس منذ دقائق "جاب لي العنب يا امه/ قطف لي حبة اللي استوى"، كان منتصب القامة في وسط المسرح، وكانت عيناه معلقتين في السقف كمن يرى عَلَماً مُتخيلاً ويغني بحماس كلمات يونس القاضى "بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي".

تكرر الأمر بعد ذلك أكثر من مرة، حتى اكتشفتُ أن غالبية كباريهات شارع الهرم وكباريهات القاهرة، تختتم برنامجها الموسيقي بالأغاني الوطنية والنشيد الوطني. سألت أحد العاملين عن السبب، ذات مرة، فرد مستغرباً سؤالي "علشان مصر يا أستاذ".

وتُحكى أسطورة لم أتمكن من التأكد منها، أن الفضل في ذلك يعود إلى المغنية شريفة فاضل التي أسست "كباريه الليل" في نهاية الستينات.

و"كباريه الليل" هو زهرة وقمة كباريهات مصر، وحجر الأساس لصالات وكباريهات شارع الهرم. مع أحمد عدوية، وضعت شريفة في "كباريه الليل"، أسس عالم الكباريه كما نعرفه اليوم. إلى جانب ذلك الدور، كانت شريفة على علاقة برجال ثورة يوليو والمؤسسات السيادية في زمن دولة الستينات، هى كذلك والدة البطل، إذ استشهد ابنها في حرب 6أكتوبر، فغنت له الأغنية الوطنية الشهيرة "أم البطل" لتُقَرّ هذه الأغنية، مع أغنيات وطنية أخرى، ضمن فقرات الكباريهات والملاهي الليلية المصرية.

في سنوات ما بعد ثورة 25 يناير، شقت الأغاني الوطنية مكاناً بارزاً لها داخل عالم الملاهي الليلية. كانت البلاد تعج بالأغاني الثورية، وجرى إحياء العديد من الأغاني الوطنية القديمة، وبالطبع تسلل هذا المزاج الموسيقي إلى عالم الكباريهات. وحينما وصل "الإخوان" إلى الحكم، اتسعت مساحة الأغاني الوطنية ضمن فقرات الكباريه. شاهدتُ الراقصات يرقصن على "يا حبيبتى يا مصر يا مصر".. والنقوط يغرق ساحة الرقص على أنغام "يا بلادي يا بلادي.. أنا بحبك يا بلادي". بل وأصبحنا نسمع، وسط فقرات الكباريه، التحية لرجال الشرطة ورجال القضاء.. والجيش.. الجيش.. الجيش. ثم جاءت ثورة 30يونيو، ومعها طوفان أغنية "تسلم الأيادي" التى اكتسبت قوة النشيد الوطني للمرحلة، وبالطبع سيطرت على عالم الكباريهات والملاهي بإيقاعها الراقص.

بدت "تسلم الأيادي" نشيداً وطنياً خارجاً من قلب عالم الكباريهات.. معزوفة شكر من العاملين في الملاهي وصناعة الترفيه لرجال القوات المسلحة والشرطة الذين أنقذوهم من المصير المظلم والرقابة التي كان "الإخوان" يسعون إلى فرضها على عوالم المتعة الليلية. لكن قوة "تسلم الأيادي" لم تستمر طويلاً، فقد احتاج النظام ومحبوه إلى أغنيات وطنية مرحة أخرى يمكن عزفها في كل مكان، كإعلان للولاء والتأييد. بعد "تسلم الايادي"، جاءت "نادي على الصعيدي"، ثم سئم المغنون، على ما يبدو، من انتاج الأغاني الوطنية المرحة .

تضاءل معدل إنتاج الأغاني الوطنية مؤخراً، حتى أنهم في العام الماضي لم يجدوا أغنية وطنية لتعميمها، ففُرض نشيد الصاعقة في ما عرف بأغنية "قالوا.. ايه علينا أيه". والتي فُرض غناؤها على طلاب المدارس إلى جانب النشيد الوطني. لكن نشيد الصاعقة المصرية، حينما غناه أطفال وبنات المدارس كانت النتيجة مثير للريبة، فتم إيقاف نشيد الصاعقة والعودة إلى الجذور بالنشيد الوطني الجمهوري مع توسيع مجاله من المدارس إلى المستشفيات. وبالتأكيد، بعد نجاح التجربة، سيعمم في بقية المصالح الحكومية والأماكن العامة.

ورغم موجة السخرية من الوزيرة، لم تتراجع عن قرارها. وفي فضاء الخوف، حيث يراقب الموظفون بعضهم بعضاً، بدأ موظفو الصحة في تنفيذ القرار. النشيد الوطنى تم بثه في عدد من المستشفيات في الإذاعة الداخلية. بل إن المستشفيات التي تعاني نقصاً في المعدات والتمويل، وطبعاً معدات الإذاعة الداخلية، وقف العاملون فيها صفاً أمام كاميرات الموبايل، وبدأوا غناء النشيد الوطني بصوت متثاقل ينساب منه الإعياء والضجر والخوف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها