الثلاثاء 2018/07/17

آخر تحديث: 11:14 (بيروت)

أفينيون 2018: القضايا الإجتماعية كحتمية سياسية.. وفنية

الثلاثاء 2018/07/17
increase حجم الخط decrease
عندما أطلق جان فيلار، أسبوع الفن في أفينيون، العام 1947، لم يكن يدرك أن هذا الأسبوع سيتحول مع مرور الزمن الى محطة جوهرية لدى صناع المسرح ومحبيه، تجمع كل عام بين مهرجاني الINN والOff ما يزيد عن 1200 عرض وتؤسس في كل لحظة للقاءات وحوارات وندوات ومعارض.


في العام 1947، كان المسرح على هامش معرض للنحت والفن التشكيلي أطلقه الناقد كريستيان زيرفوس. حينها طلب الشاعر رينيه شار من فيلار، أن يقدم عرضه المسرحي "جريمة في الكاتدرائية"، واعتذر الأخير بحجة أنه يرى، أن مكان العرض في قصر الباباوات واسع جداً وغير ملائم  لعرضه. حينها قدّم اقتراحاً بديلاً، وهو تقديم ثلاثة عروض في أماكن مختلفة ومتنوعة. منذ ذاك الوقت، كل ما أراده فيلار عبر خطوته تلك هو البحث عن جمهور جديد، شاب، متنبه لمسرح مغاير عما تقدمه خشبات باريس: أراد للمسرح أن يتنفس خارج الأقبية والصالونات، أن يخرج من فضاءاته المعهودة، من الغرف المغلقة. وهذا ما كان منذ السنوات الأولى للمهرجان، فكان أن جمع حوله لفيفاً من المسرحيين الشباب، منهم جان مورو وماريا كساريس، وثم انضم اليهم نجم السينما جيرار فيليب العام 1951 الذي قدّم في أفينيون عروضاً، ما زالت جزءاً من الذاكرة الجماعية كعرض أمير هامبورغ الذي توالى تقديمه لسنوات.

ستصبح أفينيون تجربة يحتفى بها حتى عُرف أنها منبع العروض المعاصرة التي تستقطب الحركات الشبابية، ولم يكن آنذاك مشهداً مستغرباً أن يفترش الشباب الشوارع والطرقات، وأن تفتح مساحاتٌ للنقاش والحوارات العفوية، التي تضم رواداً من جنسيات مختلفة وبات المهرجان طقساً، يستلهم منه صناع المسرح كل شهر تموز من كل عام.

لكن هذا الإحتفاء لن يطول. اذ بدأت في أواسط الستينيات تظهر بعض علامات التململ: الطقس يفقد من ألقه وبات المهرجان أقرب الى مهرجان يغلب عليه طابع الإستهلاك منه الى فسحة من الإبداع، الأمر الذي أدى الى نشوء مهرجان "أُفينيون Off” كمهرجان بديل عن الأصلي العام 1966 وموازٍ له.


ولعل اللحظة الأكثر سخونة في تاريخ  أفينيون تعود الى العام 1968 اذ سينتقل صدى ثورة أيار الطالبية الى أوساط المهرجان. لم يكن مألوفاً أن تستيقظ في أفينيون لتسمع "فيلار، سالازار" أو  لترى يافطات "لا للسلطة الأبوية" التي تمددت في أزقة المدينة. بالرغم من أن فيلار كان متضامناً مع  ثورة68 وبالرغم من أنه استقال من مهمة، كان قد كلفه بها وزير الثقافة أندريه مالرو آنذاك، قائلاً أنه "لن أعمل لحكومة ديغول"، إلا أنه خضع لأبلسة جارحة أدت إلى تشبيهه بالديكتاتور البرتغالي سالازار. ساهم في تلك الأبلسة عامل وصول فرقة The Living Theatre التي كان فيلار نفسه قد دعاها الى المهرجان، والتي أتت الى أفينيون في شهر حزيران بباصات الفولكسفاغن الفارعة بألوانها حيث مارسوا طقوس عيشهم الهيبية التي لم تكن ملائمة تماماً لأهل المدينة  اليمينية المحافظة… سلوكيات كثيرة أثارت حفيظة عدد لا يستهان به من الجمهور والسكان الذين لم يستسيغوا نمط عروض مؤسِسَي الفرقة جوليان بيك وجوديث مالينا الذي يعتمد على الHappening وعلى التفلت من كل القواعد المسرحية والإعتماد على الإرتجال وتأليه حرية الجسد بكافة طقوسه ودمج الممارسة المسرحية بالحياة اليومية بالإلتزام السياسي المطلق.. أضف الى ذلك منع عرض مسرحية جيرار جيلاس من قبل الشرطة، ووقوف بيك ومالينا وبيجار الى جانب جيلاس داعين لحرية المسرح ولخروجه الى الشارع ولوصوله لكل الناس.. كان لفيلار موقفاً فنياً من ممارسات بيك ومالينا، اذ أنه لم يجد في عروض الشارع سوى ممارسات هاوية تعود لمجموعة من الجهال، كما لم يجد الشباب في فيلار سوى هذا الرجل العجوز المزهو بماضٍ لم يعد يعنيهم. كان عام 1968 قاسياً جداً على فيلار بحيث يقال أنه لم يلتئم مما حدث، الأمر الذي سبب وفاته بعد ثلاث سنوات.

إذا ما استثنينا إيقاف المهرجان العام 2003 بسبب إضراب العاملين في المسارح وفنون العرض، لم يتعرض مهرجان أفينيون لهزة مماثلة بعد هذا التاريخ، الا أنه ظل لصيقاً بالإلتزام السياسي والإنساني، إما من خلال استقبال عروض تعنى بالراهن السياسي أو من خلال إطلاق منصات حوار ونقاش لم تخلُ من مواقف سياسية حاسمة أحياناً: يذكر على سبيل المثال، إعلان أفينيون العام 1995 احتجاجاً على الإبادة الجماعية في البوسنة ورفضاً لموقف الحكومة الفرنسية المتواطئ. تم حينها جمع 10 آلاف توقيع على هذا الإعلان وأعلن خمسة فنانين إضرابهم عن الطعام من بينهم آريان منوشكين وأوليفييه بي الذي أصبح المدير الحالي لمهرجان أفينيون. تلا ذلك العام 1999، تقديم عرض فرقة غروبوف "رواندا ٩٤" الذي كان قيد التطوير في ذلك الوقت والذي يوثق لمجازر الإبادة الجماعية بين قبائل الهوتو والتوتسي والتي مثلها على الخشبة الضحايا الذين نجوا من بعض المجازر. تكثر الأمثلة حول العروض التي تاخمت السياسة والتي قد تحتاج لسلسلة من المقالات لذكرها ولكن فلنركز قليلاً على هذا العام: يتذمر أوليفييه على وجه الخصوص من سطوة قوى الإقتصاد على قوى السياسة. ولكنه في نفس الوقت يشبه المهرجان باليوتوبيا ويرى نفسه محظوظاً لأنه شاهدٌ على جيلٍ من الفنانين في أوروبا يحاولون ابتكار رابط مختلف بين الشعر والسياسة. ولا تبدو، في هذا السياق، القضايا الراهنة سياسياً واجتماعياً غائبة عن مجمل العروض التي يقدمها المهرجان في نسخته الثانية والسبعين. ساشا فالتز في عرضها "Kreatur” تحيلنا من خلال عرضها الراقص الى السلطة والعنف والحدود والحرية وأزمة اللجوء في العالم، اتيان غوديللير يعيد تمثيل مجريات ويكيليكس على الخشبة، بينما يسائل المخرج جوليان جوسلان في "اللاعبون، ماو، الأسماء" المؤسسات والأنظمة بدءاً من مؤسسة الزواج وصولاً الى النظام الرأسمالي فاليساري وصولاً الى دور الشاعر/الكاتب في هذا كله… ١٠ ساعات متواصلة من نبض غوسلان على الخشبة،  والعالم يُصلب أمام جمهوره بجمالية فيها فائق من المتعة... والتعب. ينطبق هذا الإنشغال على العروض العربية التي تنحو أكثر نحو القضايا الإجتماعية كنتيجة حتمية للسياسة.

وستصدر في هذا السياق سلسلة من المقالات التي تركز على الحضور العربي في مهرجاني أفينيون الInn و الOff...كعرض "عساه يحيا ويشم الحبق" لعلي شحرور الذي يسترد بعض الطقوس الدينية التي تم توظيفها سياسياً في الآونة الأخيرة ويحولها الى طقس فني، وعرض "ماما" للمخرج المصري أحمد العطار، الذي يقدم الأم كشخصية تظهر من خلالها تفاعلات القوة والسلطة والمنافسة والسيطرة، وحنان الحاج علي التي تمارس هرولتها دون كلل عبر عرض "Jogging” وهيام عباس التي يستبق عرضها بشاعة هذا الزمن وأنظمته مستعيرة شخصية الكاتب جورج برنانوس وتانيا خوري التي تتطرق مجدداً الى موضوعة اللجوء وغيرهم… وللحديث تتمة!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها