في العام 1947، كان المسرح على هامش معرض للنحت والفن التشكيلي أطلقه الناقد كريستيان زيرفوس. حينها طلب الشاعر رينيه شار من فيلار، أن يقدم عرضه المسرحي "جريمة في الكاتدرائية"، واعتذر الأخير بحجة أنه يرى، أن مكان العرض في قصر الباباوات واسع جداً وغير ملائم لعرضه. حينها قدّم اقتراحاً بديلاً، وهو تقديم ثلاثة عروض في أماكن مختلفة ومتنوعة. منذ ذاك الوقت، كل ما أراده فيلار عبر خطوته تلك هو البحث عن جمهور جديد، شاب، متنبه لمسرح مغاير عما تقدمه خشبات باريس: أراد للمسرح أن يتنفس خارج الأقبية والصالونات، أن يخرج من فضاءاته المعهودة، من الغرف المغلقة. وهذا ما كان منذ السنوات الأولى للمهرجان، فكان أن جمع حوله لفيفاً من المسرحيين الشباب، منهم جان مورو وماريا كساريس، وثم انضم اليهم نجم السينما جيرار فيليب العام 1951 الذي قدّم في أفينيون عروضاً، ما زالت جزءاً من الذاكرة الجماعية كعرض أمير هامبورغ الذي توالى تقديمه لسنوات.
ستصبح أفينيون تجربة يحتفى بها حتى عُرف أنها منبع العروض المعاصرة التي تستقطب الحركات الشبابية، ولم يكن آنذاك مشهداً مستغرباً أن يفترش الشباب الشوارع والطرقات، وأن تفتح مساحاتٌ للنقاش والحوارات العفوية، التي تضم رواداً من جنسيات مختلفة وبات المهرجان طقساً، يستلهم منه صناع المسرح كل شهر تموز من كل عام.
لكن هذا الإحتفاء لن يطول. اذ بدأت في أواسط الستينيات تظهر بعض علامات التململ: الطقس يفقد من ألقه وبات المهرجان أقرب الى مهرجان يغلب عليه طابع الإستهلاك منه الى فسحة من الإبداع، الأمر الذي أدى الى نشوء مهرجان "أُفينيون Off” كمهرجان بديل عن الأصلي العام 1966 وموازٍ له.
ولعل اللحظة الأكثر سخونة في تاريخ أفينيون تعود الى العام 1968 اذ سينتقل صدى ثورة أيار الطالبية الى أوساط المهرجان. لم يكن مألوفاً أن تستيقظ في أفينيون لتسمع "فيلار، سالازار" أو لترى يافطات "لا للسلطة الأبوية" التي تمددت في أزقة المدينة. بالرغم من أن فيلار كان متضامناً مع ثورة68 وبالرغم من أنه استقال من مهمة، كان قد كلفه بها وزير الثقافة أندريه مالرو آنذاك، قائلاً أنه "لن أعمل لحكومة ديغول"، إلا أنه خضع لأبلسة جارحة أدت إلى تشبيهه بالديكتاتور البرتغالي سالازار. ساهم في تلك الأبلسة عامل وصول فرقة The Living Theatre التي كان فيلار نفسه قد دعاها الى المهرجان، والتي أتت الى أفينيون في شهر حزيران بباصات الفولكسفاغن الفارعة بألوانها حيث مارسوا طقوس عيشهم الهيبية التي لم تكن ملائمة تماماً لأهل المدينة اليمينية المحافظة… سلوكيات كثيرة أثارت حفيظة عدد لا يستهان به من الجمهور والسكان الذين لم يستسيغوا نمط عروض مؤسِسَي الفرقة جوليان بيك وجوديث مالينا الذي يعتمد على الHappening وعلى التفلت من كل القواعد المسرحية والإعتماد على الإرتجال وتأليه حرية الجسد بكافة طقوسه ودمج الممارسة المسرحية بالحياة اليومية بالإلتزام السياسي المطلق.. أضف الى ذلك منع عرض مسرحية جيرار جيلاس من قبل الشرطة، ووقوف بيك ومالينا وبيجار الى جانب جيلاس داعين لحرية المسرح ولخروجه الى الشارع ولوصوله لكل الناس.. كان لفيلار موقفاً فنياً من ممارسات بيك ومالينا، اذ أنه لم يجد في عروض الشارع سوى ممارسات هاوية تعود لمجموعة من الجهال، كما لم يجد الشباب في فيلار سوى هذا الرجل العجوز المزهو بماضٍ لم يعد يعنيهم. كان عام 1968 قاسياً جداً على فيلار بحيث يقال أنه لم يلتئم مما حدث، الأمر الذي سبب وفاته بعد ثلاث سنوات.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها