الإثنين 2018/07/02

آخر تحديث: 08:15 (بيروت)

"العودة إلى الذاكرة": الأرشيف كمادة خام للفن.. والذات

الإثنين 2018/07/02
increase حجم الخط decrease
في فضاء "ستيشن بيروت"، يقام حالياً معرض بعنوان "الحاجة إلى الأرشيف: العودة إلى الذاكرة" بمشاركة أربعة فنانين من سورية، بالإضافة إلى أعمال أربعة فنانين عالميين يتعاملون في فنونهم مع مواضيع مشابهة لتلك التي يقوم عليها المعرض. فما هي حكاية هذا المعرض؟ وما المفاهيم التي يقوم عليها؟

بدأ المعرض حين أطلق استديو خالد بركة، ومنظمة "دولتي"، دعوة مفتوحة للفنانين/ـات السوريين/ـات، مقدمين منحاً لإنتاج أعمال فنية تستند إلى أرشيف التاريخ الشفهي السوري، عبر إتاحة قصص مؤرشفة من سوريين وسوريات عايشوا/عايشن الصراع. واختير أربعة فنانين ليقدموا أعمالاً تشكيلية مبتكرة تعمل على الإستفادة من هذا الأرشيف المقدم لهم.

رندا مداح، (ترميم، 2018).

العمل السوري الأول للفنانة رندا مداح ينتمي إلى فن الفيديو، وعبارة عن شريط فيديو يتابع فيه المتلقي الفنانة نفسها، وهي تعمل أمام فتحة سببها مدفع أو قذيفة في جدار، تبين الدقائق المعروضة على الشاشة محاولات الفنانة في إعادة حال فتحة الجدار إلى ما كانت عليه قبل القذيفة. فكرة فنية ذكية تختارها الفنانة للتعامل مع موضوعة الذاكرة والفن. إن هذه الجهود التي تبذلها الفنانة لإعادة ترميم الفجوة في الجدار، تبين للمتلقي ما أرادت الفنانة التعبير عنه، وهو عبثية جهود طمس آثار الدمار التي حلت بالأمكنة. تقول الفنانة في تقديمها للعمل: "هذا العمل يختبر التغيير الذي قد يصيب الذاكرة في علاقتها بالأمكنة وبالأجواء المتعلقة بها. هذا العمل الفني يسعى لمقاربة موضوعات؛ الدمار، الحدود، الجدران، والحواجز المغيرة لشكل الخرائط ولهيئة الأمكنة، وأيضاً هو عن الجدران التي يجري ترميمها رغم العبث الشديد التي تقوم عليه أي عملية إعادة ترميم كانت".

محمد عمران، (الصندوق الأسود، 2018).

العمل التشكيلي السوري الثاني للفنان محمد عمران بعنوان "الصندوق الأسود"، ولنفهم طبيعة هذه المشاركة الفنية في المعرض يمكننا العودة إلى الشرح الذي قدمه الفنان عن أسلوب تفكيره، تأليفه، وتحقيقه لهذا العمل: "بدايةً كنت أعتقد أن تحويل شهادة سمعية إلى وسيط تقليدي مثل اللوحة أمراً سهل التحقيق بالمقارنة مع آلية أخرى وهي تأسيس اللوحة على صورة بصرية من صور الثورة أو الحرب، ولكن حالما شرعت بسماع الشهادات الصوتية والتفكير بالمعادل البصري لها، بدأت اكتشف صعوبة المهمة. لقد رغبت تقديم الحكايات التي سمعتها من شهادات الأرشيف، وأن أصف النزوح، الدمار، الأسلحة الكيمائية، والمجازر. ولذلك لم أختر حكاية واحدة، بل قررت أن آخذ قسماً من كل منها لبناء عملي الفني. فمهما اختلفت الأمكنة والوقائع بين حكاية وأخرى، فإنها بمجملها تروي حكاية واحدة، وهي حكاية القيامة السورية. لقد قررت أن أضع أجزاء المشاهد البصرية المستمدة من الحكايات على قطعة كرتون واحدة كلوحة، وجعلتها تتدلى من صندوق أسود، كأن الصندوق قادر على حماية كل هذه الحكايات المرسومة في اللوحة من النسيان. تعود المرجعية إلى صندوق الطائرات الأسود، وهي الصناديق التي تسجل كل ما تمر به الطائرة أثناء رحلة التحليق، وهو الصندوق الذي يلجأ إليه الخبراء والمختصون لمعرفة الحقائق الدقيقة حول رحلة الطائرة".


آنا بنوت، (ما يزال هناك حياة، 2018)

يتألف عمل آنا بنوت بعنوان "ما يزال هناك حياة" من خمس صور فوتوغرافية تقدم لعين المتلقي مواداً غذائية؛ عسل، تفاح، رمان، خضر وفواكه أخرى سمعت الفنانة في الشهادات الصوتية فقدانها في المناطق التي تتعرض للحصار وتعاني ويلات الحرب. في الرسائل الصوتية، سمعت الفنانة شكاوى النقص والحرمان التي تعانيها تلك النساء اللواتي يعشن حالة الحصار ويفتقدن إلى أبسط عناصر التغذية.

بعدما قدمت الفنانة هذه المواد بصورة فوتوغرافية، قريبة بكمالها وألقها من صور الإعلانات التجارية بالغة الأناقة، وضعت أمام كل منها لوحة كاملة السوداء لتحجبها عن عين المتلقي، إذاً العمل عبارة عن خمسة صور فوتوغرافية بعناصر غذائية إعلانية التصميم والإخراج الفني يتقدمها خمسة لوحات سوداء بالكامل، كأنها تحاول أن تنقل للمتلقي فكرة الحرمان من هذه المواد الغذائية عبر إفراغ الصور بالكامل منها، فتصبح عين المتلقي في حركة نواسية بين الوفرة والحرمان. تكتب آنا بنوت عن عملها: "هذا العمل يسعى إلى تصوير قوة أصوات النساء في زمن الحرب، المليئة بالحزن والشوق، ولكن أيضاً أصوات مليئة باللطف، بالإحساس، وبشيء من المرح. هذا العمل الفني يسعى لإكتشاف موضوعات الزمن والنوستالجيا، عبث المتعة، عرضية الحياة وسرعة زوالها. حاولت أن أعبّر عن اندثار وتلاشي الأشياء، وذلك عبر توظيف للألوان، للمواد، للأنسجة، وللأشكال الفنية، وذلك كي أنقل ما أمكن من حكايات اللجوء. في هذا العمل أقدم صور فوتوغرافية غابت عنها العناصر الإنسانية، لكي يتماهى المتلقي مع البعد الوجداني للموضوع والمعنى المراد التعبير عنه، وذلك حين يتأمل أماه صور كاملة السواد".


فادي الجبور، (بلا عنوان، 2018).

"لقد تأثرت بشهادات إحدى النساء تروي تجربة التعرض للهجوم الكيماوي"، هذا ما وضحه  فادي الجبور الذي يقدم عملاً مؤلفاً من مانوكان على شكل امرأة بالملابس التقليدية السورية، وهي تجلس على الكرسي بوضعية هادئة ومتوازنة إلا أن الفنان، وفوق ملابسها زرع قطعاً زجاجية تخترق اللحم وتثبت فوقه. هذا التناقض بين وضعية المرأة وحالها المتوازية وبين تعرضها لشظايا من الزجاج تخترق جلدها، يدفع المتلقي لتخيل تجربة التعرض لشظايا زجاجية تخترق الوجه، الجذع والأطراف، وكأن الفنان يطلب من خيال المتلقي المشاعراتي أن يعمل على استعادة التجربة والتماهي معها.


بهجت عمر العبد الله، (عن بعد، 2016).

عمل العراقي بهجت العبد الله بعنوان "عن بعد"، يتألف من خمس لوحات، واحدة منها سوداء بالكامل يعبر فيها الفنان عن كثافة الجثث المكتظة الغارقة في البحر. وأخرى تمثل مقطعاً بحرياً لا تظهر إلا مياهاً خالية من البشر، أما اللوحتان اللتان تشكلان حجر الأساس في عمله هذا فهما تضمان بورتريه لطفلين. استمع الفنان إلى شهادة والدتهما التي اضطرت تحت تأثير الحرب والخوف لمغادرة أرض الديار بحثاً عن أماكن للعيش أكثر أمناً، خلال رحلة الهجرة، وأثناء العبور من البحر المتوسط تحدث المأساة، وتفقد الأم كلا ولديها. تحت تأثير الصدمة والشعور بالعجز أمام حكاية هذه المأساة، قرر الفنان بهجت العبد الله أن يجعل من هذه الحكاية منطلقاً لأعماله الفني.

إذاً، هي موضوعات الهوية، الحرب، الهجرة، التي يعالجها هذا الفنان في لوحاته التشكيلية التي يعمل على تأسيسها استناداً إلى صور فوتوغرافية، تسعى تقنية الفنان إلى إعادة تشكيلها عن طريق الرسم. إن أعمال هذا الفنان تستند إلى تجربته ووعيه العميق بالعبثية التامة التي تقوم عليها الحروب، وخصوصاً تلك التي تشن تحت ذريعة الأديان.


آدم بومبرغ وأوليفر تشانارين، (ضحك الناس في الأزمات، 2011)

يشارك آدم بومبرغ وأوليفر تشانارين بأعمال فوتوغرافية مستمدة من أرشيف Belfast، وهذا الأرشيف يضم 1400 صورة بالأبيض والأسود، توثق لمرحلة الإضطرابات التي عاشتها إيرلندا الشمالية. الصور التي تكون الأرشيف أخذت من قبل فناني فوتوغراف محترفين، ومن قبل ناشطين ومتطوعيين مدنيين، وهي تصور الأعمال الإرهابية، المظاهرات السياسية، وكذلك أكثر الأعمال اليومية اعتياديةً مثل شرب الشاي، القبلات المتبادلة بين العشاق، ومراقبة القطارات. أرشيف بلفاست أنشأ في العام 1983 كرد فعل على الحظر والمنع الذي مارسته السلطات العسكرية البريطانية على مجال الصورة أثناء الاضطرابات التي عاشتها إيرلندا.


هبة أمين، (تحدث إلى تويتر، 2011)


في الثاني من كانون الأول 2011، نجحت الحكومة المصرية بقطع إتصال البلاد بالإنترنت، وذلك لتمنع نقل المظاهرات الحاشدة التي تحدث هناك. وخلال اسبوع، تمكنت مجموعة من المبرمجين المصريين من ابتكار برنامج Speak2Tweet الذي يسمح لمستعمليه تحميل رسائل صوتية وإرسالها إلى الشبكة العنكبوتية عبر "تويتر". كانت النتيجة، آلاف الرسائل الصوتية التي سجلها وأرسلها مواطنون مصريون للتعبير عن مشاعرهم. وما هي إلا سنوات، ورغم استمرار آثار الثورة، إلا أن الأرشيف الذي يضم هذه الرسائل الصوتية لم يعد متاحاً للعامة.

تقدم هبة أمين في عملها الفني "تحدث إلى تويتر"، مجموعة من الرسائل الصوتية التي سجلها المواطنون المصريون، اضافة إلى اقتراح بصري عملت عليه الفنانة، ليضاف إلى الوثيقة الصوتية. أعمال الفيديو المنفذة من قبل الفنانة تعرض على الدوام أبنية قيد الإنشاء، أو في حالة الترميم، أو في حال من توقف حركة الإعمار، أي أنها بالعموم أبنية ما تزال بحالتها الإسمنتية الأولية، وتشرح الفنانة لتوضيح هذا الخيار: "اخترت أبنية متداعية كرمز للتداعي الذي كان يعيشه النظام الحاكم في تلك الفترة، هو شبيه بحال هذه الأبنية المتداعية والقابلة للإنهيار".



جاييس سلوم وإيليا سليمان، (مقدمة لنهايات جدال، 1990)

يجلس المتلقي أمام شاشة تعرض شريطاً حققه جاييس سلوم وإيليا سليمان من تجميع صور قدمتها أفلام هوليوود، أفلام أوروبية تخييلية ووثائقية، أفلام إسرائيلية وكذلك العديد من الصور التي قدمتها القنوات الإعلامية الغربية عن غزة والضفة الغربية. يسعى هذا العمل لانتقاد الصورة التي يقدم فيها الشرق الأوسط، الثقافة العربية، والشعب الفلسطيني في الإعلام والميديا الغربية. عبر دمج الصور على شريط فيديو واحد يسعى هذا العمل الفني إلى تكوين وعي نقدي لدى المتلقي عن الصورة النمطية التي تعمل الميديا الأوروبية والأميركية على تشكيلها عن الثقافة العربية والفلسطينية خصوصاً.

معرض "الحاجة إلى الأرشيف: العودة إلى الذاكرة" يقدم نماذج فنية متعددة في التعامل مع الأرشيف، وهي تجارب تعتبر نموذجية عابرة للثقافات، فيمكن للفنانين تأسيس أعمال جديدة على أمثولتها ومفاهيمها. يكتب القائمون على المعرض: "لماذا يهمنا بشدة موضوع الأرشفة اليوم؟ يحضر الأرشيف في حياتنا أكثر من أي وقت مضى، وذلك سواء في الخطاب الأكاديمي أو في النقاش العام أو بوتيرة أعلى مؤخراً في الثقافة الشعبية. الأرشيف وسيلة أساسية لإكتشاف المعرفة المخبأة في الذاكرة. إن استخدام الأرشيف رحلة فريدة من نوعها، ليس فقط ضمن قصة أو رسالة معينة يشتمل عليها، ولكن أيضاً داخل أنفسنا حيث يبدو أن استجابتنا للبيانات المؤرشفة تقول عنا أكثر مما تقول عن الأرشيف نفسه. لقد أصبحت الأرشيفات الفنية منبراً جديداً لتوسيع الحوار القائم بين البحث والإبداع الفني".


(*) يستمر المعرض حتى 8 تموز/يوليو 2018.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها