السبت 2018/06/09

آخر تحديث: 09:05 (بيروت)

"رحلة فوق المدينة": لعبة البصر والبصيرة

السبت 2018/06/09
increase حجم الخط decrease
على طول وقتها، حافظت مسرحية "رحلة فوق المدينة"* في "دوار الشمس" (ضمن مهرجان ربيع بيروت) على سمة بعينها، وهي جمعها بين التماسك والطلاقة، بحيث كانت مترابطة بلا انقطاع أو تقطع، مثلما ظهر ترابطها كثيفاً، وبالتوازي مع ذلك، لم يؤدِ بها أمرها هذا إلى أن تكون متثاقلة، بل، وعلى العكس، بدت رشيقة في تقديم مشاهدها الواحد تلو الآخر. بالتالي، نجحت المسرحية في إبداء "رحلتها" بطريقةٍ ترتكز بمجملها على المؤانسة، والحث على عيش قصة تتأرجح، وكأي قصة، بين الهناءة والأسى، لتستقر في عقبها على طرف منهما. فرحلة المسرحية، والكلام، هنا، متعلق بأثر معروضها، هي رحلة لمؤالفة هذين الشعورين في وضع تجاورهما أو تباعدهما أو اختلاطهما.


دارت المسرحية حول قصة فتاة ضريرة، فقدت بصر عيونها، لكنها، لم تصبح عمياء، أي لم تفقد بصيرة قلبها. إذ إنها، وفي المستشفى، حيث تتهيأ لإجراء عملية جراحية، تقع في حب طبيبها، الذي يصغي إلى الخاطر في بالها، ومن ذاكرتها، كما يخبرها عما لا قدرة لها على رؤيته، أي عالمها بأسره. خلال استعدادها لملاقاة نظرها من جديد، تحاول الفتاة أن تستحضر أكثر ما يثير بصرها، وأكثر ما يروح عنه، وهو الألوان، بالإضافة إلى أنها تستحضر ما يحل مكان هذا البصر من ناحية وقعه، وما كان يحض على إغلاقه، أي الضجيج. فالفتاة، وفي حين كفّها، إما، تتألم لكون الألوان ما عادت تروح عن بصرها، أو تخفف هذا الألم بجعل موضوعه الضجيج، الذي كانت تقفل عينيها بسببه، وطبعاً، ومع الخيارين، ثمة خيار ثالث، وهو التحدث مع الطبيب، الذي لا يشكل بصرها ببصره فحسب، بل إنه يشير لها إلى تمكنها من المقبل.

كل هذا، استطاعت المسرحية أن تظهره عبر تشييدها لمبناها بطريقة محددة، مؤداها تحويل جو الرحلة إلى جو لعب. فالحوار يسير، يتألف من خاطر الفتاة، ومن الحديث الذي يجمعها مع حبيبها الطبيب. طبعاً، هذا الحوار، ولكي يقترب من كونه لعبة، أو لنقل دمية، كان، وفي بعض الأحيان، يتحول إلى مجرد لفظ لأصوات، تبعث على الضحك، كما لو أنها تقليد متعثر للعبارات. التمثيل منسجم، بدايةً، بين الفتاة وصوت طبيبها، ثم، بينها وبين طبيبها مباشرةً، لا تشوبه مبالغة، ولا يستوي على ضيق، وبدوره، ولكي يقترب من كونه أداء دمى، تخلله إيماء متسارع، ينطوي على التهكم، ويذهب بمعناه إلى الطرافة، التي لا تجيء غليظة، لا سيما أنها تبرز في لحظات ملائمة لها.

على أن الحوار أو التمثيل، لا يبلغان قيمتهما بلا ربطهما بالسينوغرافيا، التي كان تصميمها متيناً، غير متكلف، وبالفعل نفسه، يوازن بين العرض الفيديوي واستخدام الأغراض، وعلى رأسها الخيوط والحبال، والضوء والصوت من أجل التنقل من خاطر الفتاة، أو ذاكرتها، إلى غرفتها في المستشفى، قبل منزل الطبيب. وفي السياق نفسه، رافقت الموسيقى، وبفصليها، الأول، الذي يلحن الشجن، والثاني، الذي يجعل من المرح لعبة، مجريات الصلة بين الفتاة والطبيب، ولم تبد متفاوتة معها، بل مناسبة لدرجة توفيرها لأي مشهد، ولو كان ضئيل الحركة مثلاً، وقع.

استمرت رحلة المسرحية من المستشفى إلى منزل الطبيب، من كون الفتاة ضريرة إلى كونها مبصرة، ومما خطر في بالها وذاكرتها إلى ما تراه أمامها. ففي القسم الثاني من رحلتهما، التقى البطلان عيناً لعين، ولكن، ليس قلباً لقلب، كأن عودة البصر قد أدى إلى توقف البصيرة، وبعبارة أخرى، أقلعت الفتاة عن حب طبيبها، الذي، ومن ناحيته، لم يحذ حذوها. "الناس السعداء يعيشون فوق الغيوم"، رفضت هذا العيش، أما، طبيبها فقد أخذ محلها، ولكن، بدل أن يكون بلا نظر، كان مهشم النفس، "وَبينَ الرّضَى وَالسُّخطِ وَالقُرْبِ وَالنَّوَى/ مَجَالٌ لِدَمْعِ المُقْلَةِ المُتَرَقرِقِ" على قول المتنبي.

حتى نهايتها، كانت رحلة الفتاة والطبيب فوق المدينة يسيرة للغاية، ولكن، وعندما وصلت إلى خاتمتها، بدت الأخيرة ضامرة بالمقارنة مع السابق عليها، إلا أن ذلك لم يؤد إلى إضعاف مجمل المسرحية، بل، وعلى العكس بينها كناية عن لعبةٍ متينة، فيها، بصر وقد رجع، وفيها، بصيرة وقد ماتت.

*لفرقة "بريفان ستيت" الأرمنية، تأليف أنوش اسليبيكيان، إخراج نارين جريجوريان،  تمثيل سيرجي توفماسيان وجريجوريان نفسها.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها