الجمعة 2018/06/08

آخر تحديث: 09:33 (بيروت)

نيكارغوا..حين يقتل الشعراء شعبهم

الجمعة 2018/06/08
نيكارغوا..حين يقتل الشعراء شعبهم
أورتيغا وزوجته
increase حجم الخط decrease
في كتابه "الاستشراق"، يذكر إدوارد سعيد أميركا اللاتينية، مرتين فقط، وبشكل عابر جدا. كان ذكره الهامشي للمنطقة، الأكبر قليلاً من قارة، قد جاء، في تعداده للمناطق التي سقطت ضحية لتدخلات الولايات المتحدة، واضعاً إياها جنباً إلى جنب مع الشرق الأوسط. كان بعض نقاد "الاستشراق" استهجنوا إهمال كاتبه لأميركا اللاتينية في أطروحته، وهو لم يكن لديه من دفاع سوى الجهل بالمنطقة وتاريخها.

في الثمانينات، يكتب سعيد مقالتين عن أميركا اللاتينية، ففضيحة "إيران غيت"، والتي تحمل أحد مقالتيه اسمها، كانت قد كشفت له عن العلاقة الوثيقة بين الشرق الأوسط، وأميركا اللاتينية من جهة، والإمبريالية الجديدة من جهة أخرى. فالأموال التي كان تضخها سراً إدارة الرئيس الاميركي ريغان لتمويل حرب "الكونترا" في نيكاراغوا، تحت غطاء صفقات سلاح لنظام الخميني في إيران، كما اثبتت الصلة بين المنطقتين، جعلت ذلك البلد الصغير في أميركا الوسطى محطا لاهتمام الأدب.

لكن تلك العلاقة الضمنية بين نيكاراغوا، والشرق الأوسط، وتحديدا فلسطين، تبدو أكثر جلاء في مذكرات سلمان رشدي نصف الروائية "مذكرات جوزيف أنتون"، حيث يصف لقاءات في نيويورك يحضرها كاتب هندي شاب-هو رشدي نفسه- مع محمود درويش وإدوارد سعيد ومن نيكاراغوا الروائي عمر كابيزس والشاعرة روزاريو موريلو. وفي أحد اللقاءات، تدعو موريلو، الشاب الهندي "لزيارة نيكاراغوا، ليرى حرب الكونترا بنفسه".

يحدث هذا كله في الواقع أيضا، فرشدي الذي كان عضوا في حركة "التضامن البريطانية مع نيكاراغوا"، يقبل الدعوة الرسمية، ويتجول في البلد اللاتيني، الذي تقوده حكومة "السندنيستا" اليسارية، لمدة ثلاثة أسابيع، في عام 1986. ينشر رشدي عمله الأول غير الروائي، "ابتسامة النمر"، في العام التالي، عن تلك الرحلة، محملا بكثير من الانبهار وبعض من الحيرة وخيبة الأمل.

ففي عام 1979، حين نجحت حركة "السندنيستا في خلع ديكتاتورية "سوموزا" الموالية للولايات المتحدة، أطلقت واحدة من أكثر المشاريع الثورية إلهاما للخيال، "اكتب قصيدة"، لتنجح من خلالها في محو أمية 40% من المواطنين في أقل من عقد، لا بغيه تعليمهم القراءة والكتابة فقط، بل لكي يكتبوا القصائد أيضا. كان منطق الحملة ليس التعليم، بل "إشعال الطاقات الإبداعية" للشعب. في الشوارع، كان "الشعراء الجماهيريون"، الذين لم يعرفوا القراءة والكتابة قبل عام، يلقون أبياتهم على المارة. يكتب رشدي في "ابتسامه النمر" أنه وجد "جوعا للشعر" في نيكاراغوا، قبل أن يشير بغيرة إلى أن ديواناً للشعر يبيع طبعة أكثر من عشرة آلاف نسخة في هذا البلد الصغير، وهذا لا يمكن أن يحدث بريطانيا.

في ماناغوا العاصمة، كانت حكومة السندنيستا هي حكومة الأدباء عن حق، فالرئيس دانيال أورتيغا كان شاعرا، وأشهر قصائده كتبها في السجن، بعنوان "لم أر أبدا ماناغوا، عندما كانت الميني جيب هي الموضة"، وفي محبسه ذلك التقى شريكة حياته لاحقا، ومسؤولة الثقافة في الحركة، الشاعرة رزاريو موريلو (هي نفسها من دعت رشدي لزيارة البلاد). كان نصف أعضاء الوزارة أما شعراء أو روائيين ممن حملوا السلاح، ولم يكن هناك جنة للأدب والثورة معا يمكن تصورها أبدع من هذا.

كتب سعيد مقالته الثانية المتعلقة بأميركا اللاتينية في الثمانينات، عن نيكاراغوا مرة أخرى، وعن كتاب رشدي تحديداً. احتفى سعيد بـ"ابتسامه النمر"، فهو رأى فيه ما على الجميع من "مهمة سياسية... لخلق آمال يوتوبية" في مواقع متعددة بغية تصور عالم جديد. لكن كتاب رشدي لم يرسم حلما بلا شوائب، ففي طياته يلتقط التشابهات بين نيكاراغوا وبين الهند بعد الاستقلال، مشيرا للفقر الشديد، وقمع حرية التعبير وتأميم الصحافة، في البلد اللاتيني.

في عام 1990، تنتهي حرب الكونترا باتفاقية سلام، ويسقط بعدها الرئيس الشاعر، اورتيغا، في الانتخابات. يشير سعيد في مقال له في عام 1993، إلى نيكاراغوا لآخر مرة، عاقدا المقارنة بين اتفاقية سلامها مع اتفاقية أوسلو، ومصير رئيسها الساقط، بمصير عرفات الذي توقعه، فسعيد لم ير أملا في اتفاقية تغلف الإذعان للإمبريالية باسم السلام.

لم يأخذ الأمر كثيراً من الوقت، حتى تصدق نبوءة سعيد عن مصير أوسلو وعرفات، وحتى ينزاح موقف رشدي ناحية اليمين ويكتب مقدمة الطبعات الجديدة من "ابتسامه النمر" بكثير من السخرية من سذاجته حين كتبه. يعود أورتيغا الى الحكم مرة أخرى، في عام 2007، ومعه زوجته الشاعرة، كنائبة للرئيس، وبأذرع مفتوحة لاقتصاد السوق، والمشروعات الضخمة لرأس المال، وتصالح مع الكنيسة الكاثوليكية، وبقليل مما كانت تنادي به السندنيستا وأشعارها في الماضي.

الأسبوع الماضي، تقتل الشرطة 15 محتجا آخر في نيكاراغوا، ليصل عدد القتلى منذ بدء التظاهرات في أبريل/ نيسان ضد سياسات حكومة أورتيغا التقشفية إلى 100 قتيل، تعلن الهيئات الكنسية التي كانت تتوسط في المفاوضات بين الحكومة والمحتجين والطلبة عن انسحابها من مهمة الوساطة، فلا يمكن التفاوض بينما يقوم الشعراء المتقاعدون بقتل شعبهم في الشوارع. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها