الأربعاء 2018/06/06

آخر تحديث: 08:08 (بيروت)

ثقافة "الهيبة": معنى أن تكون "زلمي" معاصراً

الأربعاء 2018/06/06
ثقافة "الهيبة": معنى أن تكون "زلمي" معاصراً
منى واصف... هيبة سلطة الأمومة
increase حجم الخط decrease
لا داعي للاعتراض على مسلسل "الهيبة" من خلال تقديم ما يسمى صورة جيدة عن بعلبك-الهرمل، يعني صورة تظهر فيها على وفاق تام مع الدولة. فهذا الاعتراض ليس سوى مديح للأخيرة، وبالتالي، هو إنكار لموقعها ولموقع صميمها ومثالها، أي حزب الله، في جعل البقاع الشمالي على تصحره، بالإضافة إلى تنكره لهذا التصحر. لا داعي لإعتراض كهذا، بل يجب استبداله بغيره، الذي لا يكترث بتأليف صورة حسنة عن بعلبك-الهرمل، بل الدفاع عن الذين يريد المسلسل الحديث بإسمهم، ومخاطبتهم، وتكريس بؤسهم.

وهؤلاء ليسوا تجار المخدرات، وليسوا الطفار، وليسوا المطلوبين للقضاء، وليسوا الفقراء، وليسوا المهمشين، بل انهم، وقبل كل هذا، مجموع المحتجزين في حالة معينة، من الممكن تسميتها-وهنا، محاولة لانتاج اسمها، وقد تصح، وربما لا تصح- حالة الجمود، أي الحالة التي تقوم بإلغاء أي حدوث.

شخصية هذه الحالة هو جبل (تيم حسن)، الذي، ولأنه "كبير العيلة"، هو أكثر الخاضعين لسلطتها، اي لأمه ناهدة عمران (منى واصف)، بحيث يبدو، ومهما فعل، ومن شدة صمتها، أنه ينفذ اوامرها. بالتالي، حالة الجمود هي الامتثال لهذه السلطة، التي تجعل كل إحداث، من الكلام إلى القتل، هو تحقيق لحديثها، اي التي تعمد إلى إطفاء كل إحداث. مشهد يختصر هذه الحالة: تستقبل الأم ولديها، جبل وصخر (أويس مخللاتي) بعد عودتهما من إحدى المعارك، تستمع إلى مجرياتها منهما كما لو أنها تُسمِّع لهما درساً قبل أن تكافئهما بطهي الطعام لهما.

من المتاح متابعة وقائع "الهيبة"على هذا الأساس بالذات، أي كونها لا تدور سوى بموجب صمت أم جبل ولمقتضاه، إذ لا تبدده، ولا تحصل ضده، بل، وعلى العكس، من أجل تحقيقه. هذا الصمت هو الذي يجعل جبل وصخر، ومعهما، كل جماعتهما، يمضيان أكثر فأكثر في التشديد على أنهم يذعنون له، أنهم سقطوا فيه، في صاحبته، وبعبارة واحدة، أنهم ما زلوا تحت سلطة أمهم، غدوا "زلماً"، نتيجة ذلك، كل فعل يقدمون عليه لا ينم عن رغبتهم بل عن رغبتها فيهم. لهذا، وفي كل مرة، يذهبون إلى عملية، أيا كانت، وأيا كان حجمها، في كل مرة، يواصلون عيشهم، من اجتماعهم حول طاولة الطعام إلى السهر على تجارتهم، يعمدون إلى الجمع بين سمتين، العنف والتسلية.

الأول، العنف، يتعلق بجمودهم، بحيث أنه يوفر لهم إلغاء كل حدوث، يظنون أنه يهددهم، كما يؤمن لهم، أو هذا ما يحسبونه، إحساساً بنفوسهم، فالعنف إعدام لأي حدث للبقاء في الجدث، كما أنه وقوع على حالٍ شبه متلفة، أو بالأحرى مردية. الثاني، التسلية، يتعلق بسلطة جمودهم، بأمهم، التي، ومهما فعلوا، يجهدون في إزالة حزنها، وإبعاد الفجيعة عنها، وذلك، عبر إدخال السرور الى نفسها، كيف؟ عبر جعلها تتفرج على أفعالهم من دون أن تمل، وذلك، من خلال تطعيم هذه الأفعال بالسخرية، التي، وبالإضافة إلى أنها تبث الغبطة في سلطة الجمود، غير أنها تدلّ على أن الأبناء يقدمون عليها مدركين أنها بلا معنى، لأنها ليست من اختيارهم، كما أنها ليست متينة، فهي أفعال هشّة، ولهذا، غالباً ما ترافقها الخطابات التي تربطها، وبنبرة مرتفعة، بـ"الأصول".

فعلاقة هؤلاء بالعادات والتقاليد، التي لا يتوقفون عن تقريظها، هي علاقة معاصرة للغاية: نعرف أن هذه العادات والتقاليد "منتهية"، لكننا، نتمسك بها لأنها الوحيدة التي، من ناحية، تسوغ جمودنا، ومن ناحية أخرى، تؤمن لنا منفذاً ضئيلاً من سلطته علينا، منفذ يطلقنا من صمت أمنا، وبالفعل نفسه، لا يطلب منا أن نبدد الصمت إياه. نعلم أن هذه العادات والتقاليد هي أوهامنا، لكن، لا بأس، طالما أننا نعتمدها ونتهكم عليها. إعادة تدوير العادات والتقاليد بالتهكم، هذه مهمة الأهلي أو "الزلمي" المعاصر، الذي ليس صدفةً أنه يتجسّد بجبل، يرتدي أزياء يلبسها الفنان المعاصر بنسخته الرسمية، وليس صدفةً أن الإستفهام عنه من قبل ممثله، أي تيم حسن، لاقى جواباً معيناً، وهو "جبل متروك ومفتوح وإلك الحرية أنو تشوفها متل ما إنت بتحب".

يمسك "الهيبة" بحالة الجمود الشائعة، وهي ليست بقاعية فحسب، بل عابرة لكل اجتماع البلد وكامنة داخله أيضاً، يمسك بها، ويذهب إلى مخاطبة الواقعين فيها، وهم من الشباب، من بروليتاريي الأهل، الذين نشأوا بين آباء منهارين، وأمهات أخذن على عاتقهن أن يصلحن هذا الإنهيار من خلال الإلتهام، الذي يسمح لهن أن يحمين أولادهن، وفي الوقت نفسه، الإستعاضة بهم عن الأزواج المحطمين بتحويلهم إلى "زلم". يذهب المسلسل إلى إبداء هؤلاء، إلى تكريس حالتهم، وبالتالي، التشديد على كونها سبيلهم إلى الشاشة، إلى أن يصيروا مرئيين. بهذه الطريقة، يضحوا، وبعد فشل التلفزيون في أسطرة نوح زعيتر ليكون نجمهم-وهذا موضوع على حدة- قريبين من الاستحصال على بيانٍ إعلامي: كونوا في جمودكم، إخضعوا لصمت الأم، كونوا "زلم(اً)" معاصرين، فتكونون!

لا يردد "الهيبة" لازمة "يعيش الخروج على القانون"، بل يردد "تعيش سلطة الأهل الأمومية"، هذا ما يشدد عليه، ومن هذا تحديداً، يطالب مواربةً بالدولة. ذلك، أنه، وبعد مبالغته في تصوير الجمود، يحض على استدعاء الحدوث، أي "عودة" الدولة في أدنى درجاتها، كجسم أمني، بوصفه الوحيد الذي يستطيع فصل الـ"زلم" عن صمت ناهد عمران، فضلاً عن كونه الوحيد الذي يستطيع القبض على قاتل زوجها. فمسار هؤلاء يبدأ بخضوعهم، وينتهي باعتقالهم، وبينهما، يظهروا على الشاشة، وطوال هذا، يتأكدون من شيء بعينه، وهو ألا أحد يحبهم أكثر من أمهاتهم، من ملتهماتهم. ففي الواقع، هؤلاء تكرههم الدولة، ولهذا يتبرع بعض من موظفيها بالإطاحة ببيانهم على الشاشة، كما أن الأخيرة أيضاً تكرههم ولو أن بعض متابعيها تخيلوا أنها تهبهم حيزاً، فهذا لكي تستغل حالتهم، وتحثهم على التعلق بها، وآخر هذا التعلق هو القضاء عليهم.

وفي هذا السياق، لا بدّ من ملاحظة ترتبط بقناة "أم.تي. في"، التي من المعلوم أنها المبشرة بخطاب الدولة، لا سيما عبر برنامجها الأمني "بالجرم المشهود"، ومع ذلك، لا تجد مناصاً من عرض "الهيبة". كما لو أنها، من ناحية، وقعت على ما تريد رؤيته، وعلى ما تصورته عن بعلبك-الهرمل، لدرجة أنها أعدت عنه تقريراً إخبارياً معلنةً، وبشكل ضمني، أنه ليس عملاً درامياً، ومن ناحية أخرى، وجدت أنه مناسب لتبشيرها بالدولة، بحيث تعلم أنه ضد هؤلاء الذين يحاول الكلام عنهم، ومخاطبتهم، وجعلهم مشاهديه، أي مستهلكي الصورة التي قدمها عنهم من نسج أوهامهم، التي لا يتوانى عن تضخيمها. التسويق للإنخراط في الوهم هو التسويق للدولة، هذا ما تفهمه "أم.تي.في"، وفي هذا، تصيب، لا سيما أن التسويق للإثنين يقوم بالتشويق.

في حال اختزال "الهيبة"، عيشة جبل وصخر، فضلاً عن أختهما التعيسة، من التجارة العائلية، بالأحرى من إقتصاد الترويج، وخطبتها المرسكلة لـ"الأصول"، وهيئتها المتهكمة، لا يبقى منها سوى إحالة إلى كليشيه من كليشيهات سينما الـ"gore": أم مع أولادها في منزلهم الكبير داخل الغابة، تأمرهم بخطف كل أحد يلتقون به على أرضهم، يفعلون ذلك مع الكثير من القهقهة والدم. الأم تختنق، الأولاد يقتلهم البوليس، أما الذي قاد الكاميرا إليهم، أي السائح الذي يصادف واحداً منهم على الطريق، فيسخر منه، وعندها تبدأ جريمتهم بحقه، فيفرح بالقضاء عليهم بعد إبانتهم. لا أحد يحتمل هؤلاء، لا أحد يعرفهم. وأن تصورهم الشاشة بالإستناد إلى أوهامهم وإياها عنهم، فالتحدي الآن أن تكون على قدر الحب الأمومي لهم، أن تبتلعهم بالكامل، ولا أحد سيساعدها في ذلك سوى الدولة، أو دويلتها: كونوا "زلم(اً)" معاصرين بين خضوعكم وحتفكم!

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها