الإثنين 2018/06/04

آخر تحديث: 23:09 (بيروت)

ما وراء الفن.. تشكيليون يستعيدون مصر المحروسة

الإثنين 2018/06/04
increase حجم الخط decrease
لأصابع التشكيل قدرتها الخاصة على نسج واقع موازٍ لا ينبني على تخيلات بقدر ما ينهض على مرايا تعكس حركة الحياة ونبض البشر، ليس فقط في اللحظة الراهنة، إنما عبر التاريخ، وتلك أسطورة الفن الواجب تصديقها.

عناصر إضافية تكسب المنتج التشكيلي المصري فرادة وخصوصية، هي تلك الجذور الضاربة في الموروث الحضاري الفرعوني، منذ العمائر الجنائزية وأهرامات الأسرة الرابعة وتمثال "أبو الهول"، مرورًا بحوائط المعابد بتصميماتها المتنوعة وصورها ونقوشها، والمسلات المنحوتة من الغرانيت، وصولًا إلى المدرسة المصرية الحديثة في الفن في الثلث الأول من القرن الماضي، حيث يختزل تمثال "نهضة مصر" لمحمود مختار ملامح نهضة شاملة.

أما النكهة المميزة أو كلمة السر في الفن التشكيلي الموسوم بالفن المصري، على الرغم من سيادة النزعات العولمية والتأثر بالتيارات الحديثة الوافدة القائلة بوحدة الفنون حول العالم كنشاطات إنسانية تتجاوز الحدود، فهي باختصار "ما وراء الفن"، إذ يبدو التشكيل بوابة سحرية للنفاذ إلى روح الشخصية المصرية وحقيقة التركيبة الحياتية بعناصرها الشعبية والمحلية.

في الحضارة الفرعونية، لم يكن الفن مجرد فن، بل كان وعاء التأريخ والتخليد في الوقت نفسه لتلك الحضارة، وتصوير الأحداث والوقائع والانتصارات الحربية والمناسبات الاجتماعية ومظاهر الحياة عمومًا، والتواصل بين الآلهة والبشر، والربط بين الأجيال المتعاقبة، وبين دار الإقامة الدنيا ودار البعث والحياة الأبدية.

لم يغب هذا الـ"ما وراء" عن الفن المصري في عصر النهضة الحديثة في مطلع القرن العشرين، فأعمال محمود مختار النحتية، ولوحات محمود سعيد، تتوازى فيها القيم الجمالية المجردة مع "الموضوع" أو "الهدف"، وتتلاقى مع المفاهيم والقضايا المجتمعية.

يعكس تمثال نهضة مصر لمختار مثلًا رؤيته لمستقبل بلاده الذي كان يراه مشرقًا، وتسجل لوحة افتتاح قناة السويس لمحمود سعيد هذا الحدث التاريخي في عهد الخديو إسماعيل، كما تقتنص لوحاته الشهيرة "الدراويش" و"بنات بحري" و"بائع العرقسوس" وغيرها الأبعاد المميزة للشخصية المصرية، على الصعيد النفسي قبل التمثلات الجسدانية.

وفق الامتداد الطبيعي لحركة التشكيل المصرية، التي تعنى بالفن وما وراء الفن، يأتي المعرض الجماعي المنعقد حاليًا في غاليري "خان المغربي"(القاهرة)، ويستمر حتى الرابع عشر من يونيو الجاري، للفنانين: إيفيلين عشم الله، أحمد عسقلاني، سيد سعد الدين، وهو المعرض الذي ينخرط بشكل خاص في استيحاء "رمضان" كثيمة أساسية.

هذه العتبة المفتاحية، تجليات شهر الصوم كفريضة دينية ومظهر اجتماعي، تقود إلى مستويات وطبقات أعمق من استبصار الفن للمدارات الإيمانية وانطلاقات الروح في فضاءات التعبد والخشوع والتصوف، فضلًا عن تقصي الأجواء الشعبية والمظاهر الاحتفالية في أحياء القاهرة القديمة والتاريخية، بما يعني لمس المستقر الأصيل في الشخصية المصرية وفي مفردات الحياة وتفاعلاتها الاعتيادية والاستثنائية.
في لوحات وجداريات الفنانة إيفيلين عشم الله، العضو المؤسس لنقابة الفنانين التشكيليين وصاحبة عشرات المعارض بالداخل والخارج، تنفتح المشاهد والأصداء الرمضانية على الحكاية المروية، المتحركة، الملتحمة بالأساطير وأطياف السحْر.

لا تصطدم الذاكرة الشعبية بالفانتازيا في تجربة إيفيلين، فهما تمثلان جناحي التحليق الإبداعي معًا، وينسجم ذلك الانصهار مع التواشج الحميم بين التاريخي المسرود، وبين الواقعي الملموس، في شبكة المفردات والعناصر والعلاقات التي تنسجها الفنانة ببراعة كمنمنمات دقيقة على سطح اللوحة.

كل لوحة مما عرضته عشم الله هي ملتقى العديد من المشاهد المعيشة، والصور الذهنية، والخيالات النشطة، والحكايات البريئة، والموروثات الشفاهية، والأساطير العجائبية، التي تصب كلها في صالح "الدهشة". الصيغة أرحب من أن توصف بأنها "موتيفة شعبية"، فهي حالة حراك تعج بالحيوية والصخب، وتضخ طاقة لا نهائية في شخوصها وأمكنتها وكائناتها.

رمضانيات إيفيلين عشم الله هي فوانيس الصغار في القرية، بشموعها المشتعلة المبهجة، وهي الحلوى المعسولة، والطراطير الملوّنة، وعرائس القماش التي تلهو بها الفتيات، وتعاويذ وتمائم الحسد، ومريدو حلقات الذكر والتصوف واحتفالات الموالد.

هي كذلك طبول المسحراتية، وصخب الفرق الموسيقية بآلات النفح النحاسية، وزينات الميادين والشوارع والحارات، وانطلاق المدفع عند الإفطار والسحور، وملابس الدراويش المهترئة، ومسابحهم اللامعة، ووجوههم المكتسية نورًا موجودًا بذاته.

تنفتح تجربة إيفيلين على الريف، بفلاحيه وغيطانه وأشجاره، حيث البكارة في الزراعة وقطف الثمار والزهور ومطاردة الفراشات، وإقامة علاقات مع مكونات البيئة المحيطة، بكل ما تشتمل عليه، حتى الحشرات التي رسمها المصري القديم، وقدّس بعضها (الجعران).

ومن الأرض إلى الماء، حيث تحتفي عشم الله في تكويناتها بالنيل وأعياد المصريين على شاطئه، وفي البحر الذي تفوق أسراره وجنياته عدد أصدافه وأسماكه وحبات رماله. ولا يأتي التصوير غاية بحد ذاته، إنما هو دائمًا وسيلة للحكي عن الشخصيات والكائنات، وكشف الأقنعة عن السطح لبلوغ الجوهري الكامن.

من خلال الثيمة الرمضانية، تنجح إيفيلين عشم الله في تصوير هذه المناسبة الدينية الاجتماعية بوصفها تخص الموجودات جميعًا وليس فقط البشر، فهي تستدعي وتستعيد مصر المحروسة من ظهور الهلال إلى غيابه بكل من يحيا فوق ترابها، ويسبح في مائها، ويحلق في أجوائها. 
وإلى "ما وراء" النحت، في مجسمات المثّال أحمد عسقلاني، 40 عامًا، حاصد الجوائز وصاحب المعارض المتميزة "غرفة الفئران وحكايات أخرى"، "السماء والأرض"، "القاهرة.. هنا"، "الوهم"، "سيرة ذاتية للطيور"، "شخوص عسقلاني"، وغيرها، حيث تكاد تنهض التلقائية وحدها بالمهمة الفنية الشاقة، الساعية إلى تفجير الحالة الرمضانية من خلال الوهج التعبدي والإشراقات التصوفية.

رمضانيات أحمد عسقلاني ليست معاينات الخارج، بل هي تجليات الداخل، التي تعتمل في الروح، وتفيض من التكوين الجامد في لحظات سيولة استثنائية، كما في الركوع والسجود والدعاء ومناجاة الإله وتلاوة القرآن والانهماك في الذكر والإنشاد.

يغفل عسقلاني تفاصيل الملامح البشرية في كتله الناطقة بالشفافية من غير كلام، بما يحيل إلى أصل معنى الصوم بمعنى الإمساك عن أي فعل. وتنداح قداسة المضمون من الشكل الآدمي الذي ينصهر مع أشكال أخرى لها طابع القداسة، كالمصحف الشريف، وسجادة الصلاة، والمسبحة، ويحيل سكون التكوين الظاهري إلى معاني السكينة والطمأنينة. 
يتخلى عسقلاني عن الحسابات الهندسية المألوفة في الاشتغال النحتي، منحازًا إلى التعامل الفطري مع الأشكال، التي قد يبلورها بأجساد ضخمة أو برؤوس صغيرة، بما يخالف النسب التشريحية الطبيعية، فهو لا يقدم أسطحًا جامدة تخضع للقياس، إنما يطرح عادة حالة وطاقة تتلبس الشكل فتجعله كيانًا آخر، وفق فلسفة ذاتية بالغة الخصوصية.

هذه الرؤية تلتقط الغنى مثلًا والاستغناء في قلب الشخص الفقير أو الإنسان البسيط أو الزاهد أو المعتكف في مسجد أو محراب، ووفق هذا التصور يمكن أن يكون للساجد هالة ضوئية، أو تكون للأطفال الأبرياء أجنحة نورانية.
وإلى حقل النور أيضًا تنتمي لوحات الفنان سيد سعد الدين، 74 عامًا، أستاذ التصوير وصاحب العديد من المعارض في سائر أرجاء العالم، فالدخان الأبيض الصاعد من "القدرة" في لوحة "بائع الفول" هو من فوتونات ضوئية قادرة على إشباع الروح، وعباءة البائع وطاقية رأسه منسجمتان مع زهده وإشعاعه الداخلي.

العابدون والناسكون والذاكرون والمتصوفون في لوحات سعد الدين هم تدرجات وتموجات للأبيض وظلاله، في صراعه مع الأسْود وأشباحه الباهتة، وهكذا شأن القمر ومصابيح السماء المعلقة والطيور المرفرفة مع الأرواح السابحة في الملكوت، فالملحمة الإيمانية تعني سموًّا وصعودًا ومحوًا للعتمة الموحشة.

الدراويش أيضًا في دورانهم ورقصهم، يتطهرون بطوافهم الخاص حول أنفسهم، فتتجرد الملامح، وتتقلص التفاصيل وتتخلص من الشوائب، وتصير الرحلة معراجًا إلى طبقات لا يبلغها إلا العارفون، ويكاد يغدو كل إنسان كوكبًا دريًّا أو نجمًا مشتعلًا.

مصر المحروسة، سيرة بالغة الزخم، تتشابك تجلياتها الرمضانية عبر العصور، وتتنوع بين الطقوس الدينية والروحية، والتمظهرات الاجتماعية، والكرنفالات الاحتفالية، ومثل هذا الثراء هو أخصب ما يرجوه الفنان كي يقيم عالمًا متكاملًا لا تتهاوى ركائزه ولا تنفد مقوماته الحسية والمعنوية.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها