من الواضح أن كلش تقترب في رسمها من التشكيل الكتابي، ليس لأنها "تكتب بالريشة وترسم بالقلم" بحسب قول شائع وسطحي، بل لأن نتاجها الخطي حروفي. فقد يصح التخيل أنها تقطع جملة مسهبة إلى حروف، أو بالأحرى تنزع الحروف من جملة مسهبة، وبالتالي، تتركها تتداخل وتتبدل. وإذا كان من المتاح الكلام عن هذه الحروف، الخطوط القصيرة والمقتضبة، وتشبيهها بعنصر غيرها، فلا بد من الإشارة إلى أنها أوراق نضرة ومتساقطة من الغابة على العشب الذي يستمد وسعه من العراء، وهي لا تنزل بسبب موتها، بل بسبب انشدادها إلى الجنان. ولا يجب أن تكوِّن هذه الحروف جملة أخرى، كاملة، ومستمرة، إذ يكفي أن يتحول وقع تساقطها إلى إلتماع، أن يغدو ذهبياً، فهذا مؤشر إلى كونها وجدت منزلتها حيث تبرق.
بالإضافة إلى التساقط العمودي، ثمة حركة تغلب على رسوم كلش، وهي حركة الاحتشاد، التي تقرب الخطوط، الحروف-الأوراق، من بعضها البعض، أي التي تجعل الرجاء الفردوسي مدراراً كأنه يغزر ويتكاثر. أول ما يتبادر إلى خاطر المتفرج لما يلاحظ ذلك الاحتشاد هو السؤال إن كان الرجاء ينتهي به، أم أنه مجرد فصل من فصوله، فما الذي يدفع أطرافه إلى التجمع على بعضه البعض؟ لا يهم الجواب بقدر التأكيد على أن التجمع لا يلغي تفاصيل كل طرف: غصن مورق، زهر، شوك إلخ. كل هذا يحتشد ليكون التضاريس الرحبة للرجاء الفردوسي، الذي سرعان ما يتحول إلى رجاء جسدي، أو لحمي.
تصيب هبة كلش حين تختار عنوان معرضها من عنوان لرواية من روايات هيلين سيكسوس: " Limonade tout était si infini". فهذه العبارة التي سجلها كافكا على فراش موته، راغباً في عصير الليمون ليسد عطشه، تتصل بالرسوم، حيث الرجاء الفردوسي، ومثلما بينته، يقع بين ما "كان لا متناهياً"، أي العراء، وما هو متناهي، أي الغابة. هذا الرجاء الفردوسي هو الوقت الأخير قبل الموت وبعد المكابدة، قبل الحتف وبعد العناء، وهو وقت منشرح ومنعش، كما أنه وقت نشيط، وولود، ومشرق. ولما يزول هذا الرجاء، أو ينحسر، فتنفرط حروفه، لا يعتم، بل أنه ينفسح للبياض، الذي يصير وحده بلا نهاية.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها