الخميس 2018/06/21

آخر تحديث: 13:32 (بيروت)

جِنان هبة كلش

الخميس 2018/06/21
increase حجم الخط decrease
لا يمكن للمتفرج على رسوم هبة كلش في "غاليري صالح بركات" سوى الإنتباه إلى أن سمة محددة تحضر فيها، وهي، وعند محاولة تسميتها بدقة، الغيد، أي أن هذه الرسوم غيداء، وطيدة في رقتها وليونتها. ذلك، أنها تبدو، وبمجملها الخطي واللوني، غضة، وفي الوقت نفسه، قابلة للانثناء، الأمر، الذي يجعل منها رسوماً عشبية، مرةً، تنمو بكثافة، ومرة ً، بخفة.

من هنا، تنم شدة تلك الرسوم عن كونها، وعلى إثر عشبيتها، لا تستوي على منظر تمثيلي، لا تنبت شجرة، وبالتوازي مع هذا، لا ينعدم تشكيلها، لا تبور أو تنقلب إلى مجال قاحل. فتبقى، والبقاء هنا، بمثابة ظهور مفاجئ، بين العراء والغابة، بحيث تتلافى قحط الأول وعقب الثانية، وتنبسط.

في هذا السياق، رسوم كلش، وعندما تتحدث عن الجنان، تتألف كصور مجهرية، وكخرائط أيضاً، لهذا الرجاء العشبي الخصب كما لو أنه هو الرجاء الفردوسي بذاته. إذ إنه يقع بعد صحراء واسعة وقبل حديقة وافرة، وتقتصر نضارته على مزجه الملون، الذي يبرز مائياً، وهذا ما يتلاءم مع كونه لا ينجز شكله لكنه لا ينعدم الشكل أيضاً. ربما، اللون الأحمر الذي ينجلي في الرسوم هو صبغة ذلك الرجاء الفردوسي، لا سيما أنه يشير إلى كونه رجاء حياً ومتقداً. بالطبع، حول هذا اللون، تدور ألوان أخرى، لكنه، وحتى عندما يغيب، يحضر في عمقها، الذي يميل نحو البياض.

من الواضح أن كلش تقترب في رسمها من التشكيل الكتابي، ليس لأنها "تكتب بالريشة وترسم بالقلم" بحسب قول شائع وسطحي، بل لأن نتاجها الخطي حروفي. فقد يصح التخيل أنها تقطع جملة مسهبة إلى حروف، أو بالأحرى تنزع الحروف من جملة مسهبة، وبالتالي، تتركها تتداخل وتتبدل. وإذا كان من المتاح الكلام عن  هذه الحروف، الخطوط القصيرة والمقتضبة، وتشبيهها بعنصر غيرها، فلا بد من الإشارة إلى أنها أوراق نضرة ومتساقطة من الغابة على العشب الذي يستمد وسعه من العراء، وهي لا تنزل بسبب موتها، بل بسبب انشدادها إلى الجنان. ولا يجب أن تكوِّن هذه الحروف جملة أخرى، كاملة، ومستمرة، إذ يكفي أن يتحول وقع تساقطها إلى إلتماع، أن يغدو ذهبياً، فهذا مؤشر إلى كونها وجدت منزلتها حيث تبرق.

بالإضافة إلى التساقط العمودي، ثمة حركة تغلب على رسوم كلش، وهي حركة الاحتشاد، التي تقرب الخطوط، الحروف-الأوراق، من بعضها البعض، أي التي تجعل الرجاء الفردوسي مدراراً كأنه يغزر ويتكاثر. أول ما يتبادر إلى خاطر المتفرج لما يلاحظ ذلك الاحتشاد هو السؤال إن كان الرجاء ينتهي به، أم أنه مجرد فصل من فصوله، فما الذي يدفع أطرافه إلى التجمع على بعضه البعض؟ لا يهم الجواب بقدر التأكيد على أن التجمع لا يلغي تفاصيل كل طرف: غصن مورق، زهر، شوك إلخ. كل هذا يحتشد ليكون التضاريس الرحبة للرجاء الفردوسي، الذي سرعان ما يتحول إلى رجاء جسدي، أو لحمي.

تصيب هبة كلش حين تختار عنوان معرضها من عنوان لرواية من روايات هيلين سيكسوس: " Limonade tout était si infini". فهذه العبارة التي سجلها كافكا على فراش موته، راغباً في عصير الليمون ليسد عطشه، تتصل بالرسوم، حيث الرجاء الفردوسي، ومثلما بينته، يقع بين ما "كان لا متناهياً"، أي العراء، وما هو متناهي، أي الغابة. هذا الرجاء الفردوسي هو الوقت الأخير قبل الموت وبعد المكابدة، قبل الحتف وبعد العناء، وهو وقت منشرح ومنعش، كما أنه وقت نشيط، وولود، ومشرق. ولما يزول هذا الرجاء، أو ينحسر، فتنفرط حروفه، لا يعتم، بل أنه ينفسح للبياض، الذي يصير وحده بلا نهاية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها