السبت 2018/06/16

آخر تحديث: 09:20 (بيروت)

بين مومس وكتاب

السبت 2018/06/16
بين مومس وكتاب
increase حجم الخط decrease
- ما كان كتابك الأول ؟
* "رندلى".
- أذكرُ أنك حدثتني عنه... سرقتَه من "مكتبة الروكسي"... 
* لا، أُكرهتُ على شرائه. 
كنتُ أنوي سرقته. ما أن هممت بوضعه بين كتبي الثلاثة المدرسية، اقترب البائع مني وأفادني عن سعره: أُسقطت في يده، قبل أبيات سعيد عقل.
لم يكن كتابي الأول؛ من أين أتيت به؟
- وما كان الأول؟
* "البؤساء" لفيكتور هوغو، في نسخة مترجمة. 
- أكنتَ سمعت به؟
* بلغني خبره من جهة ما، وبقوة جعلتني أستعيض عن شراء حلويات به، بربع ليرة، لما وجدت نسخة منه على رصيف السينما عينها، وقد أقفلت المكتبة أبوابها، وبسط الباعة المتجولون كتبهم المستعملة. كانت على الغلاف لوحة مرسومة بتقريبية، وبألوان قريبة من دهان الصور الإعلانية لأفلام السينما عينها.
كان الكتاب سميكًا بين يدي، ما جعلني أتنبه لصعودي إلى البوسطة، الواصلة بين "البرج" و"النهر"، من دون أن أدير نظري إلى الفسحة المفضية إلى أحد مداخل "شارع المتنبي". تدبرت مقعدًا في الجهة الثانية، فلا يقع نظري على المومس المسنة، التي اقتعدتْ كرسيها، أمام بابها البرتقالي، منفرجة الفخذين، رافعة قليلًا قميصها النايلون عن ركبتيها. 
حفظتُ مشهدها عن ظهر قلب، مشهد يوم الأحد الصباحي: غيرها يذهب إلى القداس، أو إلى سماع برنامج "نزهة" الإذاعي، فيما يبدأ نهارها بالعمل، الذي يبدأ بالتخفف من ملابسها... لكنني امتنعت عن فتح الكتاب، أبقيته مستقرًا على فخذي، مثل هدية أستحسن تأجيل فتحها أمام غرباء، مخافة أن تتناهب صفحاته الروائحُ الكريهة المنبعثة من فضاء "السوق" – وهو اسمه الشعبي، الذي كنا نتبادله بين الصبية في حوش المدرسة.
- لكنها لم تكن زيارتك الأولى له.
*لم أزره هذه المرة، بل رحت أستعد لملاقاة ما أودعته الحروف فوق الصفحات.
- لماذا طلبت الجمع بين المومس والكتاب ؟
* هذا ما اجتمعَ من تلقاء نفسه.
- غير أنك كنت تزور "السوق" من دون رغبة في الكتب.
* "السوق" قادني إلى التعرف على موجودات رصيف السينما، بعد شعوري بالخذلان أمام مرأى المومس نفسها، التي ما عرفتُ يومها ما إذا كانت حوائي الأولى أم عاملة التنظيفات التي تتنقل في المدرسة يوم السبت بين غرف التدريس والمراحيض.
- لعلك تقسو عليها...
* كانت تشبه - لولا بعض المساحيق الخفيفة على وجنتيها، والأحمر الفاقع على شفتها السفلى، ولو وضعتْ فستانًا عليها – جارة سركيس، رفيق اللهو في الفسحات الخلفية للبناية التي يقع فيها بيتي وبيته وبيتها. إلا أن بياضها، بياضها وحده اللامع تحت ضوء الشمس، كان أشهى من سمرة جميلات ألفيس بريسلي فوق شواطىء هاواي. 
وقفتُ أمامها من دون أن أقوى على رفع نظري إليها، وقد بتنا معًا، وحدنا، في الغرفة المزركشة.
وقفت من دون أن أعرف ما عليَّ عملانه، بعد أن طالبتني بالليرة الواحدة التي قبلتْها مني، إرضاء لي، بعد تكرار سؤالي لها عن "السعر" في ذلك اليوم، في نوع من المساومة الخفية. بادرتني، وقد أقفلت الباب علينا : ما بكَ ؟... أهي المرة الأولى ؟... انزعْ سروالك.
نزعتُ سروالي بهدوء وانصياع جعلني أتذكر اليوم المفاجىء الذي طلبت فيه مديرة المدرسة من إحدى المساعدات الطبيات الكشف علينا، تحققًا من مرض أصاب اثنين من رفاقنا. يومها ارتجفت عند إنزال سروالي، وما علوت بنظري لرؤية وجوه وتعابير من يحيطون بي، لأن سروالي كان مرتقًا ووسخًا، على ما أظن.
وقفتُ أمامها من دون أن يقف عودي: ما بكَ؟!. خفتُ منها أكثر مما تضايقت من ارتباكي...
- ها قلتَ ما كنت تريد الوصول إلى قوله.

* ليس هذا، بل غيره.
خرجتُ من دكانها لأتمشى في الشوارع اللصيقة بـ"السوق" لأول مرة، واجدًا في نفسي قوة مفاجئة، بل اعتزازًا ما كنت أخاله يصدر عني: لقد عبرت ذلك الباب، الفاصل بيني وبينها، بيني وبين المارة، ممن كانوا يعبرونه ويتركونني وحدي، بصاصًا فوق رصيف. 
لهذا بدت مشيتي أمام الكتب، لما بلغتُ رصيف "سينما روكسي"، مثل القادر المتمكن الداخل إلى عالم مختلف، والذي من علامات رجولته الأكيدة أنه "يستعرض" ويتفرج ويجادل من دون أن يشتري.

- لم تشترِ "البؤساء"، يومها، لأنك كنت قد استنفدت جميع ما جمعت خلال أسابيع. 
* لم يكن في حوزتي مال، لكنني كنت رازحًا في خطوتي: تعثرت في الامتحان، لكنني بلغت صفًا آخر.
هذا ما أدركته بعد شهور، في العطلة الصيفية، مع رفاق القرية، لما أخبرتهم بزيارتي هذه. كانوا يُنكرون إمكان إقدامي على هذا الفعل، ويسخرون مني علنًا وفيما بينهم، إلا أن الواحد منهم ما كان يختلي بي وحده حتى كان يطلب المزيد من الأخبار: كنت أروي وأضيف، أروي وأُسقط، مما بات يجتمع في مكان خفي، أدلف إليه وحدي، من بوابة أُدركها بنفسي، من دون غيري.

- ولكن لماذا "البؤساء"؟
* عدتُ يوم الأحد التالي، فمررت أمام بوابتها، حتى إننا تبادلنا طرف ابتسامة خفية، ابتسامة التعارف.
الغريب ما حدث لي بعد وصولي إلى البيت، حاملًا كتابي الأول بين يدي مثل شهادة كفاءة أو استحقاق. 
سلفًا ابتعدتُ عن جلسة أخوتي مع والدي، وانتحيت زاوية في الصالون...
لم أسافر يومها، ولم أدخل إلى بيوت أوسع وأجمل من دكان المومس، وإنما انتسبت إلى رفاق جدد، لا يحسنون التكلم بلغتي، وإنما يحسنون إدخالي إلى غرفهم الحميمة من دون أن يخجلوا أو أن أخجل منهم.
شعور غامر بالانخطاف، بالغبطة، مما لا يسعه جناحان، ولا يقوده صندلي بمحركاته الهائلة، مما يتلفظه لساني ولا أكتبه، مما يبقيني في قعدتي طائرًا من دون حراك، عامرًا بملكيتي من دون قرش في جيبي.
كان يوم أحد، يوم عطلة، وكان يوم ميلادي. 
- لكنك تنكر معرفتك بيوم ميلادك !
* هذا صحيح، لكنه يوم ميلادي.

(*) مدونة كتبها الباحث والشاعر شربل داغر في صفحته الفايسبوكية
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها