الخميس 2018/06/14

آخر تحديث: 11:02 (بيروت)

قارئات القرآن... لماذا اختفين؟

الخميس 2018/06/14
increase حجم الخط decrease
إن أول من سجل القرآن الكريم على اسطوانات من الرجال، هم المغنون، ومن النساء العوالم.
لا يخشى المغامرون –هكذا يصفهم محمد دياب، الباحث في تاريخ الموسيقى والإنشاد- الطرق الوعرة. ربما لأنه ليس لديهم ما يخسرونه، ومع ظهور وسيط جديد لتوثيق ونقل الموسيقى، كالاسطوانات الحجرية، لم يجد فنانو الصف الثاني والثالث بدا من التقدم بأنفسهم لتسجيل أغنياتهم، بعد أن عزف نجوم الصف الأول عن المشاركة في التجربة الجديدة، لشكّهم في قدرة ذلك الوسيط على نقل أصواتهم بالجودة المطلوبة، من جهة، وتخوفهم من أن يحل ذلك الاختراع -مع انتشاره- محل حضورهم الفيزيائي، فيكفّ الجمهور عن طلبهم لإحياء لياليهم الخاصة أو يعزف عن حضور حفلاتهم، من جهة أخرى.

فماذا لو أضيف إلى ما سبق افتراضات التحريم التقليدية؛ إن احتوى ذلك الوسيط الجديد على آيات من الذكر الحكيم. كيف سيكون الوضع إذا حملت تلك الاسطوانة أيادي شخص غير متطهر!

إن الجهل بماهية الوسيط الجديد، لم يدفع "المغامرين" ليضطلعوا بدور المرتلين كي يسجلوا القرآن بأصواتهم للمرة الأولى، فحسب، وإنما جعل من تلك العملية مهمة شاقة، جرت وقائعها في سرية تامة، فبحسب دياب الذي ينقل عن الباحث الفرنسي فريدريك لاغرنج المتخصص في شؤون الغناء المصري، إن المطرب محمد سليم، أول من سجل القرآن على اسطوانة لحساب شركة أوديون عام 1906، اضطر إلى تسجيله تحت جنح الليل، وفي أحد المنازل النائية على أطراف المدينة. ومنذ عهد الخديو إسماعيل وحتى الربع الأول من القرن العشرين، سجل عدد من العوالم القرآن على اسطوانات، لكن دياب يوضح أن العالمة هنا، تختلف عن العوالم اللائي ظهرن في أفلام حسن الإمام، وأن لفظة عالمة كانت تطلق على كل الموسيقيات المحترفات في القرن التاسع عشر، وأن هذه التسمية تشمل أيضًا ما يعرف بالمطربة.
وإذا كان تسجيل القرآن للمرة الأولى يتطلب كل تلك المشقّة من الرجال، فلماذا قد تضطلع المرأة للقيام بالدور ذاته، إن لم يكن هناك قارئات متحققات يتلين القرآن الكريم، عزفن هن الأخريات عن تسجيله بأصواتهن للتخوف ذاته، وإن كنّ على هذا القدر من التحقق في مطلع القرن العشرين، فأين ذهبن، ولماذا اندثرت تلاوة النساء للقرآن؟


في كتاب "ألحان السماء"، الذي صدرت طبعته الأولى في العام 1959، يشير الكاتب الراحل محمود السعدني، إلى أن بداية اضطلاع النساء بقراءة القرآن في المحافل الاجتماعية، تعود إلى بداية القرن التاسع عشر، وما سبقه، حيث انتقلن من النواح على الميت في المآتم إلى تلاوة القرآن على روحه، لكن الباحث محمد دياب، يعارض تلك الفرضية، إذ أشار، خلال ندوة استضافها مركز دال للأبحاث، إلى أن المستشرق البريطاني إدوارد وليم لين، سجل في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، الذي صدر في عام 1836، أنها عادة مصرية قديمة، حيث إن العائلات كانت كثيرًا ما تستقدم قراء للقرآن من الجنسين، لتلاوته في الصباح، وبشكل يومي، واحد للرجال، وواحدة للنساء، فالقرآن كان يتلى للاستمتاع بتلاوته وهي عادة أسبق على استقدام الشيوخ للقراءة في المآتم، وهي فرضية أشار إليها دياب في موضع آخر، ضمن سياق تحقيق نشره عن الموضوع ذاته في مجلة "الكواكب"، عام 2014، اذ أخبرته المطربة الراحلة هدى سلطان، في حوار بينهما، أن "والدها كان يستقدم يوميًا شيخة تقرأ للنساء في بيتهم، كل صباح، وكان هناك شيخ يقوم بالأمر نفسه للرجال، وأن الشيخة مبروكة كانت تقرأ في منزلهم، وأنها أحبّت الترتيل والغناء من خلال تلاوة الشيخة مبروكة للقرآن".
ولعل ذلك المزج بين تلاوة القرآن والطرب، لا يقتصر على قيام العوالم بتسجيله على الاسطوانات في البداية، وإنما يمتد إلى مقرئات القرآن المحترفات أنفسهن، حيث يقول دياب: "إن عدد المقرئات اللائي وهبن أصواتهن للتلاوة فقط قليل جدًا، فحتى أشهرهن على الإطلاق كريمة العدلية ومنيرة عبده وسكينة حسن، جميعهن قدمن الغناء بجانب التلاوة، فسكينة حسن، قدمت الإنشاد الديني والغناء العاطفي جنبًا إلى جنب مع تلاوتها وتسجيلها القرآن على اسطوانات وفي الإذاعة الأهلية، بل إن منيرة عبده، التي كانت أول امرأة ترتل القرآن في الإذاعة المصرية الحكومية عام 1936، بعد شهور من افتتاحها، سمحت لها الإذاعة بتقديم وصلة غناء عاطفي، بعد ثلاثة أيام من تقديمها تلاوتها الأولى، في العاشرة من صباح يوم الخامس من إبريل 1936، وكذلك كريمة العدلية التي كانت الإذاعة تبث لها إلى جانب التلاوات القرآنية قوالب أعمال غنائية في قالب الدور والموال والطقطوقة والقصيدة، والأمر لم يكن غريبًا وقتها، فكبار المشايخ الرجال كانوا يقدمون الغناء مع التوشيح الديني، وينتقلون من هذا إلى ذلك، ولعل حالة الشيخ أمين حسنين، الذي اشتهر بغنائه طقطوقتي "شبيكي لبيكي قلبي وملك إيديكي"، و"إوعى تكلمني بابا جاي ورايا" أكبر مثال على ذلك".
بل إن دياب يشير إلى واقعة طريفة، جرت خلال الترويج للمحاولة الأولى لتسجيل القرآن، التي قامت بها ودودة المنيلاوي، وكانت في الأصل عالمة، حيث كتبت شركة "ماركوني" على الملصق الخاص بالاسطوانة، أن التلاوة تأتي بمصاحبة كمان سامي الشوا، غير أن التسجيل خلا من أي موسيقى، اذ إن الشركة أرادت بهذه الحيلة استثمار نجاح التعاون بين المنشد علي محمود وعازف الكمان سامي الشوا اللذين كان الإنشاد الديني قبلهما يؤدى من دون موسيقى، وهما كسرا تلك القاعدة.


والأرجح أن المزج عكس وجهة نظر مستقرة، لا ترى ضيرا في استخدام المقامات الغنائية في قراءة القرآن، فملحن كالشيخ زكريا أحمد كان يعتبر التجويد الذي لقنه لأم كلثوم لتلاوة بعض الآيات من سورة إبراهيم، التي قدمتها في فيلم "سلامة" (1945)، بمثابة لحن أعدّه لتلك الآيات، وكذلك رأى محمد عبدالوهاب الأمر نفسه في تلقينه المطربة وردة بعض الآيات من سورة آل عمران، قدمتها في فيلم "ألمظ وعبده الحامولي" (1962). ويشير دياب كذلك إلى تجربة أخرى لتلحين القرآن وفق هذا المفهوم -أي اعتماد المقامات الغنائية في تلاوة القرآن وليس تلحينه موسيقيًا- كانت ستتم بين رياض السنباطي وأم كلثوم، ذكرها الأول في إحدى الحوارات الصحافية، إلا أنها أحبطت لتخوفهما من اعتراض الأزهر.
خلال العقود الأربعة الأولى من القرن العشرين، ذاعت أسماء مقرئات كثيرات مثل كريمة العدلية ومنيرة عبده وسكينة حسن والشيخة مبروكة ونبوية النحاس ومنيرة أحمد وعطيات إبراهيم والشيخة زاهية وخوخة أحمد، وعلى مدى أربعة أعوام قدمت الإذاعة خمس قارئات للقرآن، هن على حسب ترتيب ظهورهن: منيرة عبده وكريمة العدلية (أول تلاوة في الرابع عشر من إبريل 1936)، وخوخة إسماعيل (أول تلاوة في التاسع عشرة من إبريل 1936)، والشيخة منيرة أحمد الحضري (في التاسع من سبتمبر 1940)، أما الشيخة عطيات إبراهيم فقد كانت أخر صوت نسائي يصدح بآيات من الذكر الحكيم من الإذاعة المصرية وحتى يومنا هذا، في الخامس والعشرين من نوفمبر 1940، لكن ذلك التعاون بين الإذاعة والقارئات النساء توقف بعد ذلك التاريخ، دون سبب واضح، وينفي دياب الفرضية التي ذهب إليها السعدني في كتابه سابق الذكر، من أن كبار الشيوخ أصدروا في مطلع الأربعينات فتوى تحرّم تلاوة المرأة للقرآن في المحافل العامة، لأن صوتها عورة، مشيرًا إلى أنه عاد إلى أرشيف الفتاوى بالأزهر ولم يعثر على مثل تلك الفتوى، ومستشهدا بالبحث الذي أجراه نبيل حنفي محمود على مجلة الراديو المصري في تلك الفترة، والتي تخلو من أي إشارة لمثل تلك الفتوى، متسائلا في الوقت ذاته، أنه إذا كانت الفتوى حقيقية، فكيف قرأت أم كلثوم في العام 1945 القرآن في فيلم "سلامة"، وكيف استعان المخرج أحمد بدرخان بالقارئة منيرة عبده في فيلم "الله معنا" عام 1955، لتتلو القرآن في عزاء السيدات في إحد المشاهد، وكيف قامت وردة بالتلاوة في فيلم "ألمظ"؟
تعكس التسجيلات التي عرضها محمد دياب خلال الندوة، رغبة كبيرة لدى هؤلاء المقرئات في محاكاة أصوات المقرئين الرجال، حتى يكاد المستمع يجزم بأن من يقرأ القرآن رجلًا وليست امرأة، الأمر الذي يوحي بأن ثمة ما دفعهن لإثبات أن أصواتهن ليست بالرقة النافلة، وأنهن قادرات على القراءة بالنبرة ذاتها التي يتلو بها الرجال القرآن، لكن الباحث الفني يرجح أن المنع جاء بقرار من الإذاعة المصرية نفسها، وإن اختفت أي وثيقة تثبت صدور مثل ذلك القرار. فبحسب دياب لم يكن هناك أي اعتراض شعبي على تلاوة المرأة للقرآن. على العكس، كان لهن جمهور كبير يحرص على الاستماع إليهن، وهذا الأمر لفت انتباه محطات اذاعية عريقة مثل البي بي سي والشرق الأدنى فاستقدمتا القارئات للتلاوة عبر أثيرهما بعد أن أوقفت الإذاعة المصرية التعاون معهن.

ولعل في أداء الإذاعة المصرية ما يثبت تلك الفرضية، فعلى الرغم من سماحها للمقرئات بالتلاوة والغناء في الوقت ذاته، إلا أنها كانت تحجب التلاوات النسائية في شهر رمضان، ثم تعود مجددًا لبثها بعد عيد الفطر.

والغريب في الأمر أن ذلك المنع بات كأنه ميثاق اتخذته الإذاعة المصرية، فعلى الرغم من المحاولة المضنية لنقيب قراء القرآن الكريم الأسبق، الشيخ أبو العينين شعيشع، إلحاق القارئات بالإذاعة، في العام 2010، إلا أن دعوته وُجهت برفض شديد من الإذاعة نفسها، ولعل في رد الدكتورة هاجر سعد الدين، الذي أدلت به منذ فترة قريبة، في معرض إجابتها على سؤال حول إمكانية تلاوة المرأة القرآن عبر الإذاعة، ما يعكس النظرة التي تتعامل بها الإذاعة مع القارئات، حيث قالت: "إذا كانت هناك أصوات رجال فلماذا نلجأ للنساء". المدهش ليس في أن صاحبة ذلك التصريح يعود لأول مديرة للإذاعة المصرية عبر تاريخها، وإنما لأن تعليقها جاء في معرض الرد على تصريح أدلى به د. حسن سليمان، الرئيس الحالي لشبكة القرآن الكريم، رحب خلاله بعودة المرأة لتلاوة للقرآن، والذي على ما يبدو أنه خرج –في عرفها- عن تقاليد الإذاعة العريقة.


غير أن المحاولات الحثيثة التي قام بها بعض نقباء قراء القرآن، الإذاعيين، يقابلها في الوقت ذاته، طموح أنثوي لا يعتبر تلاوة القرآن في المحافل العامة ضمن أولوياته، بحسب دياب، فعلى الرغم من تسجيل نحو 150 امرأة لأنفسهن في نقابة قراء القرآن، واعتماد النقابة عضويتهن، إلا أنه من النادر أن توجد بينهن قارئة تريد الاشتراك في الإذاعة، وأنهن رغبن فقط في عضوية النقابة للتمكن من مزاولة مهنة تحفيظ القرآن، حيث لم يعد الاستمتاع بتلاوة القرآن غرضًا طربيًا في حد ذاته، سواء أكان القارئ رجلاً أو امرأة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها