الجمعة 2018/06/01

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

في محترف خالد ضوا: المجرم لا يتركني أعيش الحب

الجمعة 2018/06/01
increase حجم الخط decrease
الدخول إلى محترف النحات السوري خالد ضوا في باريس (في إطار فعاليات "أبواب مفتوحة على الفن السوري المعاصر") يشبه التجول في سنوات الثورة والحرب السورية المستمرة إلى اليوم، لا لأن منحوتاته تذكّر أو تعبّر وتحيل إلى القضية السورية وحسب، بل لأن هذه الأعمال، وأخواتها، عاشت يوماً بيوم مع السوريين، يعرفها كثير منهم، مرّت على الدوام أمام عيونهم في فضاء الميديا الاجتماعية، حتى لو لم يعرفوا اسم مبدعها.


منحوتات ضوا، مثل السوريين، تثور كما في "أحرار المرسم"، وهو عمل يمثل شخصياته الطينية ترفع لافتة من ورق تطالب بالحرية، وتعلن انشقاقها كما في منحوتة "أعلن انشقاقي"، وتموت من البرد مثلما حدث لمنحوتة تصوّر لاجئين سوريين، منحوتة للاجئين ألقيت في العراء، لتُلتَقط لها الصور مغطاة بالثلج. 

كانت وسائل التواصل، التي احتضنت كثيراً من الفعاليات ضد النظام، نافذة الفنان على جمهور السوريين. ألزم الفنان نفسه بمواكبة يوميات الثورة، بالنحت أولاً، ثم بالنشر عبر الفايسبوك، خصوصاً عبر صفحة حملت اسم "طين وسكين". كان ذلك جزءاً من حركة تشكيلية سورية واعدة، وبوسعنا أن نتذكر هنا صفحة "الفن والحرية" التي قدمت أعمال العديد من الفنانين التشكيليين المتضامنين مع الثورة.

وهنا، على بعد آلاف الأميال من بلده، ما زال الفنان ملتزماً بالتعبير عن تلك المأساة. ستجد في صدر المشغل عملاً كبيراً هو الأحدث يحاكي حارة مهدمة بفعل القصف. يصور الحيطان المهدمة، الجثث في الشوارع، الشرفات.. عمل جاء على غرار "هنا حلب" صوّر فيه مشهد جثث في حي مهدم، تحيط بها البراميل.

عمله الجديد جاء تحت تأثير القصف الوحشي على الغوطة الشرقية. إنه مشغول بخبرة وتجربة الفنان كمصمم سابق للديكور، ويبدو أن هذا ما يدفعه أيضاً للتفكير في استثمار العمل سينمائياً، من دون أن تتضح الفكرة تماماً في المخيلة. هو النموذج الضد للماكيتات المعمارية المبهجة التي تصور البيوت والشوارع والحدائق كما يحلم بها الناس. هنا يجتهد الفنان في نحت الخراب، نحت الكابوس. ليس عملاً للمتعة إذاً، كما يقول ضوا: "فأي متعة أن تعيش مع بيت مهدم وطفل ميت!". ويضيف "النحت هنا دخول في دوامة عنيفة، لأن تفكيرك لا يتوقف ولا يهدأ حول المشهد الواقعي المأسوي".

إنها علاقة عسيرة مع الواقع، يبدو أن الالتصاق بالناس والتفاعل معهم دفع بمن على الأرض لأن يرسل صورة مأساوية واقعية للفنان، يقول له إنها "تشبه منحوتاتك، انحتها". و لا يخفي النحات احتفاءه بهذا الصدى، هو المشغول بأن تصل أعماله للمتلقي. فهو يصرّ مثلاً على أن لا يخرج العمل من بين يديه من دون عنوان، يرى أن العنوان يسهّل توصيل المنحوتة وفهمها. 

خواء الديكتاتور
في وسط المشغل تنتصب منحوتة قيد الإنجاز، هي واحدة من مجموعة اتخذت العنوان "انهض"، تُصوّر رجلاً سميناً جداً، جالساً على كرسي. هو شكل من أشكال الديكتاتور، ويبدو أن الفنان تقصّد المفارقة بين ضخامة الكتلة، وهشاشتها، إذ توحي الثقوب الكثيرة في جسد التمثال بخفّته، بخوائه على وجه الدقة. غير أن ضوا يجد في الاشتغال على هذا التمثال طريقة في "التنكيل" بالديكتاتور، عبر فعل تثقيب جسد المنحوتة بآلة حادة، هذا على ما يبدو كان بسبب التنقّل في العمل على أكثر من منحوتة في وقت واحد، هذا هو الحال حين ينتقل من العمل على جثث الضحايا في حي مدمر ومنحوتة الديكتاتور على كرسيه.

أما تلك المنحوتات الرومانسية المصفوفة تحت عنوان "هو الحب" فلا يبدو الفنان عابئاً بها، يقول "أشتغل واحدة من فترة لأخرى، لكنني لا أقدّمها للغاليريهات والمعارض. ليس لدي وقت لتسليط الضوء عليها، هناك مجرم لا يتركني أعيش الحب". يقولها الفنان، ويلتفت إلى مجموعة "مضغوط"، التي سبق أن قدمها في معرض في مدينة مرسيليا الفرنسية بهذا الاسم، وقد جاءت بنتيجة تجربة اعتقال عاشها الفنان، في واحدة من حكايا السوريين المؤلمة.

لقد أصيب ضوا بطلق ناري، دفعه، وهو الناشط والمتخلف عن الخدمة العسكرية الإلزامية حينذاك، أن يلجأ إلى أقرب مشفى، حيث سيقاد بعدها للاعتقال وتوجيه الاتهام له بالإرهاب. ولن يخرج إلا إلى الخدمة العسكرية حيث يزجّ في مواقع قتالية قبالة أهل وأقرباء وأصدقاء له في غوطة دمشق. وضع دقيق وموقف تراجيدي  سيضطره للهرب تالياً إلى لبنان ومنها إلى فرنسا.

شاهد خالد ضوا إذاً جانباً من فظائع المعتقلات، واختار أن ينحت الناس مضغوطين في ما يشبه علب السردين، حيث يتحول المعتقلون إلى جسد واحد، لا تدري يد من هذه، ولا إلى من تعود هذه القدم. لكنه بعد خروجه سيعايش الضغط ذاته في أمكنة كثيرة، ما يجعل موضوعه حياً وقابلاً للنحت من جديد.

صحيح أن زيارة مشغل خالد ضوا ومنحوتاته في باريس توجع القلب، لكن الصحيح أيضاً أنها تشعل فيه الأمل، حينما توقن بأن هناك من لم تبدّله الأيام، ولا الأحوال، حتى ولا الهزائم. يعرف الطريق بعينين مغمضتين، وقلب صاف.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها