الأربعاء 2018/05/30

آخر تحديث: 13:15 (بيروت)

الآثار المصرية.. أسابيع الآلام

الأربعاء 2018/05/30
الآثار المصرية.. أسابيع الآلام
كشفت وزارة الآثار في مصر عن اختفاء نحو 33 ألف قطعة أثرية
increase حجم الخط decrease
"إذا استمرت سرقة الآثار بالمعدل نفسه فلن يتبقى في مصر إلا (الممثلة) آثار الحكيم"! جملة الكاتب الراحل جلال عامر الشهيرة، كانت الأكثر انتشاراً في صفحات التواصل الاجتماعي الأسابيع الماضية، لأنه لا يكاد يخلو أسبوع تقريباً من قضية أثرية كبيرة أو فضيحة مدوية تضاف إلى سجل سرقة الآثار المصرية الحافل بالعديد من الانجازات - بالنسبة اللصوص بالطبع- حتى أن البعض يقول إن ما تملكه متاحف العالم يقارب نصف ما تملكه مصر من آثار!

يرجع تاريخ سرقة الآثار في مصر إلى منتصف القرن التاسع عشر، بالتأكيد كان السلب قد بدأ قبل ذلك لكن المقصود هنا ما يمكن تسميته بـ"النشاط المنظم" على يد البعثات الأجنبية، خاصة وأن المصريين لم يكونوا قد التفتوا بعد إلى ما تمثله هذه الآثار من قيمة، وكانت تباع على الأرصفة كأي سلعة عادية، حتى إن جان جاك رينو وهو نحات فرنسي وصل إلى مصر عام ۱۸۰۰ وقضى فيها نحو أربعين عاما كتب: "أن العرب كانوا يشعرون بالحيرة من القيمة العالية التي يضفيها الأجانب على قطع قديمة عديمة الجدوى من الحجر والتماثيل"!

ولسرقة المقابر في مصر تاريخ قديم شائن، حيث كان المتبع أن يدفن الملوك والنبلاء بأغلى ممتلكاتهم فكان أول الأحياء استفادة من الموتى هم العمال الذين يدفنونهم، وكثير من أوراق البردي القديمة تسجل إجراءات قانونية ضد منتهكي القبور، ويذكر تحقيق رسمي سجل على أوراق البردي: هذه هي القبور والتوابيت التي يرقد فيها الشيوخ المباركون والنساء وأبناء الأرض التي تقع غرب المدينة، وقد وجد أن اللصوص اقتحموها جميعا وأنهم انتزعوا شاغليها من الأكفان والتوابيت والقوا بهم في الصحراء وأنهم سرقوا قطع الأثاث التي وضعت معهم والذهب والفضة والحلي التي كانت في التوابيت. هذا "المحضر" لا يختلف كثيراً عن المحاضر التي تسجل يومياً الآن للصوص الآثار، الاختلاف الوحيد أنه سجل عام ۱۱۳۰ قبل الميلاد!

لكن ما حاجتنا للتاريخ إذا كان الحاضر يحمل قصصا أكثر عبرة ودلالة ورعباً في الوقت نفسه، ففي أغسطس الماضي كشفت وزارة الآثار في مصر عن اختفاء نحو 33 ألف قطعة أثرية. رقم ضخم جدا، بالتأكيد لم يكن حصيلة عام واحد، بل سنوات من العمل الدؤوب والمرهق لعصابات الآثار، لكن مع حالة الفراغ الأمني عقب ثورة يناير 2011 المهمة أصبحت أيسر كثيرا، استغلت العصابات حالة الفراغ تلك، وبدلا من الاستمرار في أعمال الحفر المرهقة وغير المجدية في كثير من الأحيان، اتجهت إلى المنبع مباشرة، مخازن الآثار وحتى المتاحف نفسها، وسرقت بالفعل مخزن "القنطرة شرق" في سيناء، ومخازن مقابر سقارة، وهاجموا مخزن بعثة متحف متروبوليتان في دهشور، ومخزن "سليم حسن" في الجيزة، وحصلت اعتداءات على مخازن تل بسطه، ومخازن وادي فيران في شرم الشيخ جنوب سيناء وفي عدة مواقع أخرى، فبحسب مصادر أثرية فإن تقرير إدارة المخازن المتحفية وقتها كشف عن اختفاء 370 قطعة أثرية من مخزن أطفيح جنوب محافظة الجيزة، و35 قطعة من مخزن تل الفراعين في كفر الشيخ، و34 قطعة من المخزن المتحفي بالداخلة في مصر الوسطى، و26 قطعة من مخزن كوم أوشيم بالفيوم، و52 من مخزن أبو الجود في مصر الوسطى، و238 قطعة من مخزن منطقة آثار ميت رهينة في الجيزة، و96 قطعة من مخازن أسوان، و157 من منطقة سقارة الشهيرة في الجيزة. 



مهاجمة المخازن لم تكن فقط المهمة الأسهل لكنها كانت كذلك الأكثر ضمانا للعصابات، لأن معظم الآثار في تلك المخازن غير مسجلة وبالتالي لن يكون من السهل إيقاف بيعها أو استردادها حال خروجها وظهورها في أي منطقة في العالم.

ورغم ذلك لم تكن الآثار المسجلة بعيدا عن عمليات النهب أيضاً حيث تعرضت متاحف كثيرة لسرقات، حتى وصل الأمر لاقتحام المتحف المصري نفسه أحد أكثر الأماكن تأمينا في مصر، وتفريغ محتويات متحف ملوي بالكامل!

حتى المتحف الجديد الذي لم يفتتح بعد، لم يسلم من التخريب. فبعد أيام من وصول تمثال رمسيس لمقره الجديد أمام المتحف في منطقة الرماية، وبالتحديد في آخر أيام إبريل الماضي، كادت النيران أن تنهي حلم "المتحف الأكبر في الشرق الأوسط"، حيث نشب حريق ضخم في "السقالات" الخشبية المثبتة لتجهيز الواجهة الخارجية للمبنى، حوالي الساعة 12.30 ظهرًا وقت الراحة الرسمية للعمال، وامتدت النيران لكامل الواجهة واحترقت الجهة الخارجية الغربية بالكامل، وأدى الحريق إلى تلف الطبقة العازلة المثبتة على الخرسانة ومجاري التكييف المعدنية، وخراطيم الوصلات الكهربائية وتهشم زجاج الواجهة.

وذكر بيان للنائب العام المصري أن معاينة النيابة العامة أكدت أن الحريق نشب بسبب تطاير الشرار الناتج عن استخدام جهاز اللحام والصاروخ الكهربائي وسقوطه على طبقة العزل "الفوم" التي، تغطى الواجهة الخرسانية الخلفية الغربية للمبنى والأعمدة المستخدمة في الصعود على تلك الواجهات "السقالات"، مما تسبب في اشتعال النيران بها، وكان ذلك أثناء قيام إحدى الشركات المتعاقدة من الباطن مع الشركة المنفذة للمشروع بأعمال تركيب مواسير خاصة بالتكييف المركزي للمتحف عن طريق تثبيتها ببعضها البعض.

النيابة التي حرصت على أن تؤكد خلو قاعة المتحف من أية قطع أثرية، لم تذكر أي تدابير لمنع حدوث ذلك مجدداً، فقط قالت إن المكان لا يضم سوى قطعتين أثريتين، تبين سلامتهما بالكامل وعدم تأثرهما بالحريق، الأولى تمثال للملك رمسيس الثاني بالبهو الخاص في مدخل المتحف، والثانية تمثال عمود مريت بتاح وموجود داخل صندوق خشبي في جوار تمثال رمسيس، وأن باقي القطع الأثرية التي يجرى تجهيزها للعرض موجودة في قاعة أخرى في معمل الترميم. وبعد أقل من شهر على الحادثة، ظهرت فضيحة جديدة، حيث قالت صحيفة "ايمو لا اوجي" الإيطالية إنه ضُبطت عشرات القطع الأثرية بعد تهريبها من ميناء الإسكندرية، وصودرت في ميناء ساليرنو الإيطالي.

وأشارت الصحيفة إلى أن حاويات هبطت من السفينة في ميناء ساليرنو، وعُثر على قناع مصري ذهبي، وتابوت حجري، وقارب يحوي 14 مجدافا! -حاول أن تتخيل حجم الفساد الذي يسمح بخروج قطعة بهذا الحجم ويؤمن وصولها- وأشارت الصحيفة إلى أن هذه القطع الأثرية كانت تسافر على "حمولة دبلوماسية"، مشيرة إلى أن المدعي العام في ساليرنو يحقق في تلك العملية، خاصة وأن تلك القطع الأثرية كانت بيعت في السوق السوداء، وقيمتها لا تقدر بثمن.

بعد ساعات من نشر الخبر وانتشاره على صفحات التواصل الاجتماعي، سارعت الخارجية المصرية للرد، وكالعادة كانت الصياغة "الخارجية المصرية تنفي...الخ" لكن فحوى البيان لم تكن تحمل أي نفى في الحقيقة، بل كانت تأكيداً لما جاء في خبر الصحف الإيطالية، حيث قال المستشار أحمد أبوزيد، المتحدث باسم وزارة الخارجية، إن هناك أكثر من 23 ألف قطعة أثرية ضبطت في إيطاليا حتى الآن، لكن "لم يتحقق من مصرية هذه الآثار" موضحًا أن الوزارة طالبت بـ"صور أكثر وضوحًا للتأكد من مصريتها وأثريتها"!

وأضاف أبوزيد، في تصريحات تلفزيونية بعدها أن هذه الآثار ذهبت لإيطاليا في حاوية دبلوماسية من ميناء الإسكندرية فعلاً، لكنها تخص شخصا إيطاليا! موضحًا أن واقعة اكتشاف تهريب الآثار المصرية في إيطاليا تعود لتاريخ 9 مارس الماضي، دون أن يعطى أي سبب للتأخر في الرد كل هذه المدة.

وتابع: "دي المعلومة الوحيدة اللي الجانب الإيطالي أمدنا بيها، أن الحاوية دي دبلوماسية وتخص شخصا إيطاليا ومش عايز أقول تفاصيل أكتر من كدة، والدبلوماسي الإيطالي ده مش معروف حتى الآن".



لكن شعبان عبد الجواد، رئيس إدارة الآثار المستردة في وزارة الآثار المصرية، تحدث صباح الجمعة 25 مايو، عن مصير الحاوية مشيرا إلى أنه تم التأكد من أثرية القطع، وأوضح عبدالجواد، أن شرطة الآثار والسياحة الإيطالية لم تنته بعد من التحقيقات بشأن القطع الأثرية التي ضبطتها، وأنه لا يوجد موعد محدد لعودة القطع الأثرية في الوقت الراهن.

وأكد أنه لا يوجد حصر بعدد القطع الأثرية المهربة في الخارج، وأن الإدارة تتابع كافة الآثار التي تظهر في الخارج إما عن طريق الضبط في الموانئ والمطارات، أو المزادات التي تعرض على مواقع التواصل الاجتماعي وأنها تتخذ كافة التدابير اللازمة لعودتها!

وأشار المسؤول المصري إلى أن القطع تتكون من مجموعة من الأواني الفخارية من حقب زمنية مختلفة وأجزاء من توابيت وعملات، وقطع قليلة تنتمي للحضارة الإسلامية.

قبلها بأيام كانت وزارة الآثار قد أصدرت قراراً، صدق عليه مجلس الوزراء ينص على تفكيك القطع الأثرية من المساجد ووضعها في المتاحف والمخازن بحجة حمايتها من السرقة. ونُفذ هذا القرار بسرعة مذهلة بفك أول منبر من مسجد "أبوبكر مزهر" الذي يعود تشييده إلى القرن الخامس عشر.



قرار تفكيك القطع الأثرية ونقلها من أماكنها الأصلية، لم يكن وليد اليوم بالطبع، القرار يخطط له منذ 10 سنوات أو يزيد، بالتحديد عام 2008 بعد أن نجحت عصابات الآثار بالفعل في تفريغ مجموعة كبيرة من المساجد الأثرية من أندر ما فيها، وفقدها لأجزاء أثرية نادرة تنوعت ما بين حشوات المنابر أو أجزاء زخرفية من المساجد نفسها، كان من أبرز تلك السرقات وأفدحها: سرقة كل زخارف منبر مسجد الطنبغة المارداني في الدرب الأحمر، وجزء من زخارف جانم بهلوان، ولوحة أثرية من سبيل رقية دودو، وجزء من زخارف منبر مسجد الصالح طلائع، وريشتي منبر مسجد منجك اليوسفي في القاهرة القديمة وبعض حشواته، وحشوه خشبية من الضلفة اليسرى للباب الخشبي لمسجد الفكهاني الأثري، المطل على حارة حوش قدم وهي عبارة عن حشوه مزخرفة بالحفر الغائر، وكل زخارف "كرسي المقرئ" في مسجد ومدرسة السلطان قايتباي المطعم بالصدف والعاج والحشوات الدقيقة وكان يجلس عليه قارئ القرآن يوم الجمعة، شباك سبيل أم محمد علي الأثري الذي يقع في ميدان رمسيس بأول شارع الجمهورية أمام مسجد الفتح.

لقي القرار معارضة كبيرة من المهتمين بالآثار في مصر، واعتبره البعض الأخطر على الإطلاق لأنه إقرار صريح بالفشل في حماية التراث الأثري، كما أنه ينسف الفكرة التي عملت عليها الوزارة كل السنوات الماضية، لتحويل القاهرة القديمة إلى متحف مفتوح للآثار الإسلامية، فبتفريغ المساجد من أندر مقتنياتها التي صنعت تاريخها وأكدت عظمة صناعها، لن يبقى في المتحف المفتوح سوى هياكل حجرية فارغة.

أعلنت الوزارة إيقاف تنفيذ القرار مؤقتا، لكن لم تكن تمضي أيام إلا وأعلنت عن إحباط محاولة سرقة السور الحديدي الخارجي المخصص لحماية حرم قلعة صلاح الدين والمطل على شارع صلاح سالم.

تزامن هذا كله مع مذبحة غامضة في إحدى الضواحي الهادئة في القاهرة، حيث عثرت قوات الأمن على جثامين 5 أشخاص من أسرة واحدة في مدينة الرحاب شرق القاهرة.

قيل في البداية أنها عمليه انتحار، ثم شُكك في هذه الرواية، ولم يتم حتى الآن كشف غموض الواقعة، لكن مقطعاً صوتياً انتشر على إثرها يؤكد علاقة أحد أفراد الأسرة بعملية تهريب لشحنة أثرية ضخمة متورط فيها بعض المسؤولين البارزين!
هل هناك علاقة بين هذا كله؟ لا شيء مؤكدا ولا شيء مستبعدا أيضا.

المؤكد فقط أن صفحات التواصل الاجتماعي باتت تلعب دورا بارزا في قضايا التراث، ومارست بالفعل ضغطها في قضايا كثيرة تخص الآثار، نجحت في إيقاف قرار نقل المنابر الأثرية، الذي وصف بأخطر القرارات الحكومية في الفترة الأخيرة، وأدى انتباهها لشحنة الآثار الكبرى التي ضبطت في إيطاليا إلى التعجيل بالرد الحكومي الذي تأخر قرابة الشهرين؛ حيث علمت السلطات في مارس الماضي، ولم تهتم بالتحرك والرد إلا الآن بعد انتشار الخبر على الصفحات!

لكن للأسف، سياطها لا تقدر أحيانا أن تخترق الجلد السميك الذي أثقلته خبرات الفساد المتراكمة، كما أن تأثيرها لا يدوم، ربما لأنها كالفراشة -في حركتها وأحيانا في تأثيرها- تطير من قضية لأخرى، انتبهت لفضائح الآثار وأحرجت المسؤولين، لكن أصيب محمد صلاح فطارت إلى هناك ولم تعد حتى الآن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها