الثلاثاء 2018/05/29

آخر تحديث: 13:06 (بيروت)

هشام البستاني: الكتابة في مواجهة الكسل المعرفيّ

الثلاثاء 2018/05/29
هشام البستاني: الكتابة في مواجهة الكسل المعرفيّ
صارت النّجوميّة والأموال جزءًا من أحلام الكاتب
increase حجم الخط decrease
ثمة قاعدة، أن المقدمة تهيئ القارئ للتعاطي مع نص هو مقبل على قراءته، فإما تمنحه صلات تربطه بما قبل (خلفية تاريخية ومعرفية عن الموضوع) وما بعد (الموضوع ذاته)، وإما تلخص –في عرض تشويقي- أبرز ما احتوى عليه النص. وفي حالة حوارنا المطول مع القاص الأردني هشام البستاني، حول كتابه "شهيق طويل قبل أن ينتهي كل شيء"(دار الكتب خان)، قد لا تبدو تلك القاعدة حتمية. فالحوار يصلح –بلا مبالغة- كبطاقة تعريفية للكاتب، ليس بمنجزه فحسب، وإنما بمنهجه ورؤاه الأدبية، بتفصيل يجعل من التلخيص مهمة شاقة.

وإلى نص الحوار: 

ما وراء الواقع

- ترتبط غالبية قصصك بالأوضاع العربية الراهنة، وينصب انتقادك كله على نموذج الزعيم/الإله (بحسب وصف النصوص)، رغم أنه في الحالة السورية تحديدًا، يضم بعض فصائل المعارضة المدنية (وليست الجماعات المسلحة) إلى دائرة الاتهام.

* أنا أهتم عادة بالأسباب لا بالنّتائج، وإن كانت النّتائج كثيرًا ما تمثّل علامات تدلّنا على الأسباب. وما نحن فيه الآن –في تقديري- يعود إلى عاملَين تاريخيّين، الأول هو الاستعمار وما خلّفه من تقسيم للمنطقة، وإنشاء كيان استعماري استيطانيّ عدوانيّ فيها (إسرائيل)، وتعزيز الانقسامات الإثنيّة والدينيّة، وتمكين الهويّات الناشئة عنها، وترسيخ التبعيّة عبر إعاقة نضوج المجتمعات المسيّسة، والإلحاق الاقتصاديّ والسياسيّ، وخلق وإدامة كيانات معوّقة تنمويًّا لا تملك من الاستقلال والسّيادة سوى شعارين مُفرغين من معناهما، ودعم المجموعات الحاكمة لهذه الكيانات، واستمرارها حتى اليوم في التدخّل (المباشر وغير المباشر) للحفاظ على هذا الوضع.

أمّا العامل الثاني فهو المجموعات الحاكمة المحليّة التي تلت الاستعمار، وارتبطت به إمّا بشكل مباشر (وهذه كيفيّتها واضحة)، أو غير مباشر (عبر الاستمرار في، وترسيخ، ما أنشأه الاستعمار: وأعني به ما صار يسمّى اليوم بـ"الدولة الوطنيّة" و"مؤسّسات الحكم" فيها، بشكل شطب أي توجّه نحو بناء دولة، وصفّى أيّ إمكانيّة للمؤسّسيّة فيها). هذه المجموعات الحاكمة دمّرت مجتمعاتها بشكل أكبر من الاستعمار؛ ففي حين وحّد الاستعمار أغلب القطاعات الاجتماعيّة في مواجهته، وشكّل بوجوده فُرناً لإنضاج المجتمعات المستعمَرة وتسييسها، فكّكت المجموعات الحاكمة المحليّة مجتمعاتها، ومنعت نشوء ونضوج المؤسّسات السياسيّة والنقابيّة فيها، وألحقت كلّ السّلطات بها، وحوّلت النّخب الثقافيّة إلى نوع من أنواع المتسوّلين؛ كلّ ذلك لاحتكار السّلطة، ومنع نشوء أيّ منافس.

من الصّعب إذًا التّغاضي عن هذا الدّور للاستعمار، وللزّعيم/الإله الذي خلفه (بفساده وقمعه واحتكاره للسّلطة)، في تشكيل ما نحن عليه، وإنتاج كلّ الظواهر التي توصف اليوم بالإرهاب والتطرّف والعنف والإجرام، وغيرها من الكلمات التي تريد أن تسلخ الظاهرة عن أسبابها المولِّدة، وأن تضلّلنا باتجاه اعتبار هذه الظواهر قائمة هكذا، من تلقاء نفسها، محوّلة السّبب إلى جهة نتمسّك بها لإنقاذنا من هذه الظواهر.

هذه السّياقات هي ما لا يُلتفت إليه أبدًا في خطاب الدّعاية السطحيّ الذي ترسّخه السّلطة، وينطلي على الكثيرين. وانتقاد السّبب (الزّعيم/الإله) يأخذ أهميّة مزدوجة في وضع صار فيه السّبب يقود اليوم مشروع "الأمن والأمان"، و"النظام في مواجهة الفوضى"، وكأنّنا لا نتعلّم من أيّ من تجاربنا المفجعة معه. 

كيف ترى إذن مصائر ثورات الربيع العربي؟

مصائر الانتفاضات العربيّة (لا أحبّ أن أسمّيها "ثورات" لأسباب ليس هذا مكان تفصيلها) منطقيّة جدًّا. ماذا كنّا نتوقّع من قوى اجتماعيّة، غاضبة –نعم- لكن مُفكّكة، وغير متّفقة، ولا متجانسة، تم إلحاق و/أو تدمير أدواتها السياسيّة (الأحزاب، النّقابات، المؤسّسات الاجتماعية)، وحُوّلت إلى مجموعات زبائنيّة تتناحر على أعطيات السّلطة لعقود طويلة، ثمّ توحّدت بعد تعاظم القمع والفساد والفقر في ما سميّته في مقالةٍ لي: "الطبقة المؤقّتة المناهضة للنّظام"، لتُطالب برحيل رأس النّظام، من دون أن تبني بديلًا (وهو يأخذ عادةً عقودًا من العمل، ولا يولد بين يومٍ وليلة)؟ ما حصل –برأيي- عظيم في ظلّ حجم الرّعب الذي كان مسيطرًا على النّاس لأكثر من نصف قرن، والخراب الذي ما زلنا نعيش فيه، وشكّل فرصة تاريخيّة للتّجريب والتعلّم من الخطأ، وفَضَح نُخبًا عاجزةً وتابعة، وفكّك أوهامًا ورومانسيّات وسذاجات، وكسر تابوهات، وقدّم مادّة للتّفكير، ووضع الكثير من الأسئلة في مناطق جديدة لم يكن السّؤال فيها مسموحًا أو مقبولًا.

من هنا ينطلق الأمل بمستقبلٍ مُغاير: التاريخ ليس نهائيًّا ولا هو قضاء وقدر، هذا من جهة؛ من جهة ثانية: لا يُبنى الأمل بالتّفاؤل (الحلم الرومانسيّ التعويضيّ، أو الاستبداليّ، ومشاهدة العالم بصورة "إيجابيّة" على العكس مما هو في الواقع)، بل بالتّشاؤم والسّوداويّة (باعتبارها أدوات حادّة للنّقد والفهم والكشف، وبالتّالي: المواجهة).هذا ما أفرزته الانتفاضات العربيّة، وهذا ما أحوال استكتشافه في كتاباتي بفرعيها، الأدبس شعرًا وقصّة، والمقالة الفكريّة، مع الاختلاف البيّن في الشّكل والأدوات بين الفرعين.

في شهادة نشرت لك مؤخرًا عن المجموعة القصصية، أشرت إلى توصيف البعض لكتابتك بالسوريالية، لما فيها من إبهام، وأنك تفضل بدلاً عنه وصف السوريالية الميتا-واقعية، لكنني وبالرغم من تحفظي على الدافع وراء الوصف- أتفق معهم في اعتبار كتابتك سوريالية، من دون إضافات أخرى إلى المفهوم، لأن السوريالية قامت لتواجه الواقع أولًا، وهذا ما يفسر اشتباك نصوصك مباشرة مع الواقع الراهن من دون تورية، وثانيًا لأن لغتك تنشغل في صناعة ما أسماه جورج حنين "الصورة المفتوحة" التي هي المقابل للصورة "المغلقة" في الشعر التقليدي.

عبارة "الميتا-واقعيّة" التي أضفتها على "السّورياليّة" هي لإزالة الالتباس عند جمع من العامّة والدّارسين الذين صاروا يتبنّون فهمًا مُبتسرًا، وسطحيًّا عن السّورياليّة، ليساووها بالإبهام تارةً، وبالغرائبيّة تارةً أخرى، وهذا ما ساهم فيه "نُقّاد" جهابذة ابتُلينا بهم في عالمنا العربيّ، شكّلوا منهلًا مُضلّلًا لقرّاء وأدباء ومُطّلعين لا يسهل عليهم الوصول إلى مصادر غير عربيّة، أو يتكاسلون عنها؛ أضف إلى ذلك جرائم التّرجمة.

كثيرًا ما كان عليّ أن أشرح مسألة معروفة ومفهومة خارج السّياق العربيّ، وضمن نخبة عربيّة محدودة مطّلعة، هي أن السّورياليّة مرتبطة عضويًّا (كما كلّ الأشكال والمدارس التّعبيريّة والفنيّة) بالواقع، باعتبارها جدلًا عنيفًا معه من جانب (ما أسميّه: التّفجير)، وإعادة تشكيلٍ وترتيب له من جوانب أخرى (بما يفيد تعدّد زوايا الرّؤية، وإعادة إنتاج المعنى، والتّأمّل)؛ بل إن أكثر أشكال الفنون تجريديّة ترتكز على الواقع عندما تشتقّ معناها (أو لامعناها) منه، وتُحيل –بالضّرورة- إليه. لذا صارت العبارة شكلًا من أشكال التّصحيح، والاشتباك مع "الدّارج"، أو الواقع، ومواجهته أيضًا، بمعنىً سرياليّ.

لكنّي أجد أن عبارة "الميتا-واقعيّة" (ما وراء الواقع) تخدم عنصرًا جديدًا يُضاف إلى السّورياليّة، أو لنقل، يُبرِز أحد عناصرها (المُتضمَّنة والمُتوارية) بشكل أكبر: ثمّة ما هو أعمق بكثير من السّطحيّ، والبديهيّ، والمفهوم ضمنًا، والمُتعوَّد عليه، والنّظرة التي تأخذ الشّيء على ظاهره صارت وباءً مع عصر يتّسم بالسّرعة، والتّلاحق، والأنانيّة، والانغماس في الذّات، والرّغبات الآنيّة التي لا تَشبع. هناك حاجةٌ، إذًا، للتمهّل والوقوف عند الظواهر، واستنطاق ما خلفها، بل وإلغاء المعاني الظّاهرية –أحيانًا- لصالح المعاني الأعمق. كما أن هناك حاجة للتّركيز على مسألة أشكُرُكَ على الانتباه لها والإشارة إليها: "من دون تورية". ثمّة اتّجاه اليوم عند عديدٍ من الكتّاب للتّورية الكاملة، والاشتغال على المُتخيّل التامّ، أو التّعقيم والتّلطيف والتّخفيف والإشارة الخجولة. أهو خوفٌ من السُّلطة؟ مُغازلةٌ لرضا الجوائز؟ لا يهمّ، المهمّ أن "الميتا-واقعيّة"، باعتبارها رؤية تفتقد إلى التّورية، وتحتقر المُجاملة، وتنفض عن نفسها التّجميل، هي كتابةٌ مغضوبٌ عليها: لا تُعجب القرّاء (الذين يبحث أغلبهم عن التّسلية والسّهولة والعوالم التّعويضيّة أو التّفريغيّة)، ولا تُعجب السّلطة (التي تبحث عن التّخدير والتّسليم والمُطلقات وإبقاء النّظر على مستقبل مُتوهّم لا حاضر مُنهار)، ولا تُعجب الجوائز (المرتبطة –عمومًا- بالسّلطة والسّوق) التي تبحث عن رضا جميع الأطراف (أي: السّلطة والسّوق).إذًا، صارت إضافة "الميتا-واقعيّة"، والتّأكيد عليها، إضافة غير زائدة بهذا المعنى.

أتّفق معك في ما يخصّ "الصّورة المفتوحة" للنّصوص. الطّاقة التعبيريّة التي أسعى لاستخدامها هي طاقة توليديّة، وبهذا المعنى، تفتح مسارب للأسئلة، وتدفع باتّجاه تشكيل ذاتيّ -عند المتلقّي- للعلاقات والمقدّمات والنّتائج. هكذا يكون الشّكل الفنيّ "ديموقراطيًّا"، ويبني شراكة تخليقيّة يتحوّل فيها فعل التلقّي إلى فعل إبداعيّ، ولا يعود هناك قارئ للنصّ، بل فاعل فيه، والأصحّ: فاعل فكريًّا وفنيًّا في ذاته (وبالتالي: محيطه) انطلاقًا من النصّ.

 


تبعيّة للسّلطة والسّوق

 - هذا الاختزال المفاهيمي، مثل وصف الإبهام بالسوريالية، أو تفسير غرض الفنتازيا بالالتفاف على الرقابة، ولَوك عبارة رولان بارت الشهيرة عن موت الكاتب التي تعني "فناء السياقات المؤلفة للنص" وليس انقطاع علاقة المؤلف بنصه، وغيرها من ممارسات نقدية قاصرة ورائجة، أجده انعكاساً لتهافت نقدي، وليس غيابًا له كما يذهب البعض.

النقد اليوم يلهث خلف الجوائز وخياراتها: لعلّ النّاقد يُكلّف بورقة في مؤتمر لقاء مكافأة كبيرة (نسبيًّا) هنا، أو يُستدعى كعضو في لجنة تحكيم هناك، ومن يدري متى يصير رئيسًا للجنة التّحكيم، فيناله من بريق النجوميّة طرف!

النّقد في العالم العربيّ في أزمة، عنوانها الانتهازيّة والتبعيّة للسّلطة والسّوق، وهي تتماثل مع أزمة الكتابة التي تقع تحت ذات العناوين. إن كان رونان مكدونالد قد تحدّث عن موت النّاقد في الغرب، والاستعاضة عنه بمنتديات القراءة، وتعليقات القرّاء على فيسبوك و"غود ريدز" (وهي رؤية فيها شيءٌ من المبالغة)، نجد أن النّاقد في العالم العربيّ قد انتقل إلى المجاملات الصحفيّة، وترويج خيارات الجوائز، والابتعاد عن الدّراسات الطويلة الجادّة، وتخلّيه عن اجتراح مسارات نقديّة جديدة تستجيب للواقع الثقافيّ العربيّ ومآلاته، بل إن كثيرين من نقّاد اليوم توقّفوا عن متابعة مستجدّات المعرفة (ثمّة وشائج عميقة بين النقد الأدبيّ، والفلسفة، وتاريخ الفن، وحتى العلوم) وتطوّرات الفنون، وهناك كتّاب تسبق معارفهم النقديّة هؤلاء النقّاد بأشواط. هي أزمة نقديّة كاسحة، سببها الانحطاط العام وسيادة السّلطة والسّوق، ونتيجتها أن الرديء يسود المشهد ويحتلّه، بينما يقبع المجدّ والمبدع في الهامش.

- في النص ثمة راوٍ أكثر عصرية، من الراوي الشعبي، يعتمد في لغته على الإيقاع الصوتي، ويشوب أداءه مسحة مسرحية، كذلك هناك نص أشرت إلى أنه كان في الأساس شهادة صحافية ثم طورته إلى قصة، بالإضافة إلى العديد من الروابط الروائية التي اعتمدت عليها في بناء المجموعة القصصية، بدءًا بالعناوين الفرعية لفصول الكتاب الأربعة، والتي يمكن فهمها على إنها المراحل التي يمر بها الغريق منذ لحظة غرقه في المحيط، وكذلك احتواء كل فصل على بطل ضمني ذي وجوه متعددة، أو ظهور الشخصية ذاتها في أكثر من نص مثل "شاندرا" الخادمة مثلا. إلى أي مدى يمكن لجنس القصة الاستفادة من أجناس الإبداع الأخرى من دون أن يفقد هويته؟

* لست مهمومًا ببقاء هويّة النوع الأدبيّ للقصّة أو الشّعر أو غيرهما. الأساس عندي هو الجدارة الفنيّة، وإمكانات التعبير الفنيّ، وهذه تتصاعد وتتطوّر من خلال البناء المعرفيّ المستمرّ للكاتب، واطّلاعه على ما يستجدّ في حقول الفلسفة والعلوم، واستفادته من الفنون الأخرى كالفن التّشكيلي والسّينما والرّقص المعاصر والتّصوير الفوتوغرافي والموسيقى، ومن الفنون الكتابيّة المتعدّدة.
كلّ ما يساعد الطّاقة الفنيّة والتعبيريّة للنصّ هو مجال مفتوح لي للاستفادة منه وتوظيفه واشتقاق مسارب كتابيّة جديدة من خلاله. يمكن لكلّ الأجناس الكتابيّة أن تستفيد من هذا التفاعل، وهو تفاعل يمكن أن يكون متبادلًا، فأنا –مثلًا- أعمل مباشرة من خلال العروض المُمَسرحة مع هذه الأجناس، وقدّمت عروضًا اجتمعت فيها القراءات الأدبيّة الممسرحة لنصوصي مع الرّسم الحيّ ("أرى المعنى" مع علاء طوالبة، "الخراب: مقدّمة لنهاية..."مع رفيق مجذوب)، والرّقص المعاصر ("سائل" مع شيرين التّلهوني)، والموسيقى (مع عدّة موسيقيّين وفرق موسيقيّة أبرزهم: "زائد ناقص" و"ثلاثي روح") ، والهيب هوب (ضمن أُلبوم "أثر الغراب" لكاز الأمم، والعرض المُشترك الذي حمل نفس الاسم - 2013)، والبرمجة الحيّة للصّورة والصوت ("شهيق طويل..." مع محمد شحرور وعلاء طوالبة)؛ بالإضافة إلى اشتغالي عام 2014 على مشروع أدبي-موسيقي-سمعي-بصري كان بمثابة المختبر الحقيقيّ لمثل هذا النوع من التّفاعلات المتعدّدة المشارب والمسارات تحت عنوان: "فينفجر كابوسٌ جديد"، قدّمت من خلاله -مع شركاء رئيسيّين- ثلاثة عروض، تضمّنت موسيقيّين ضيوف مختلفين، وتفاعلات مختلفة، كلّ مرّة.
قدّمت الفنون فوائد كبيرة لي ككاتب، سواءً لجهة انسياب الجُمل، أو إمكانات التّعامل مع المكان والزّمان السّرديّين، أو الحركة داخل النّص وتحريك عناصره. استفدت من الرّواية فكرة تعدّدية الأصوات داخل النصّ الواحد، ورغم أن قصصي ترتكز أساسًا على الأحداث لا الشّخصيّات، إلا أنني أستفيد أيضًا من الرمزيّة والتّكامل المُضمرين في ظهور بعض الشخصيّات أكثر من مرّة، صراحةّ أو ضمنًا، في نصوص مختلفة (مثل شاندرا)، أو في كتب مختلفة (مثل الزّعيم/الإله).

لماذا لا نزال مهتمين بالتصنيف في رأيك؟

لأنّنا في عصر التّسليع والاستهلاك. لتبيع شيئًا، يجب أن "تُغلّفه" ضمن وحدات متشابهة يسهل تسويقها وبيعها والتعوّد عليها واستعادتها بسهولة وأتوماتيكيّة، هذا من جانب؛ من جانب آخر: هناك ميل واضح للاطمئنان والاستقرار، والرّكون لما هو مفهوم ضمنًا أو بداهةً، ولا يحتاج كثير تفكير.
الأجناس الهجينة، الخارجة على التّصنيفات، مُقلقة، تُوتّر القارئ، وتثير امتعاض النّاقد الكسول، ويحتار الشّخص كيف يقرأها خصوصًا إن كان الهدف من القراءة هو "فهم ما يريد الكاتب أن يقول". قد يكون لمثل هذا الفهم وجاهة عند قراءة مقالة بحثيّة أو نصّ فكريّ، هذا نصّ مكتوب لتوضيح فكرة ما للقارئ وبحثها أمامه باستفاضة، أما الأدب فموضوعه مختلف تمامًا وتحدّثت عن فهمي له في الإجابة عن أسئلتك السّابقة، فلن أكرّر.
في محاولة للخروج من التّجنيس، وضعت لكتابي "أرى المعنى" عنوانًا فرعيًّا هو بحدّ ذاته تجنيس: "سرد/ موسيقى، أو: قصص على تخوم الشّعر"، أجده اليوم بلا معنى حقيقيّ، وسأشطبه إن طبع الكتاب ثانيةً. ليس من همومي اليوم أن أجنّس النصّ الأدبيّ المُلتبس أو الهجين، همّي (مثل همّي مع باقي النّصوص الأدبيّة كائنًا ما كان "جنسها") جدارته الفنيّة، وكلّما كان في الشّكل المستخدم جدّة (شكل ولغة تستفيدان من الرّاهن ومعارفه)، وجديّة (أعني بها تمكّنًا واطّلاعًا واسعًا وفهمًا وقصديّة من قبل الكاتب)، وسلاسة (أعني بها انعدام افتعال، وإقحام، وتكرار، وتأتأة، واستعراض)، كلّما كانت هذه الجدارة أعلى وأفضل.


أشكال أدبيّة مُتعبة

في نص "التفاحة المعلقة على الشجرة "، يقول الراوي:"كثيرًا ما أُنَظِّر أن القصة شقيقة الشعر، تجمعهما وشائج عميقة تنفردان بها عن الرواية، تسقط الرواية". لا يكره بطل القصة الرواية بشكل عام، وإنما التجارية منها، هذا مفهوم، لكن الغريب أن ذلك الرأي، رغم اختلاف صياغاته، بات من الرواج بحيث صار "موجة عامة"، وهو المنوط به أن يواجه "موجة عامة"، يردده كتاب القصة المبدع منهم ومحدود الموهبة، ويردده أيضًا الروائي الذي يجمع في مشروعه بين كتابة القصة والرواية. ولماذا هذا التمايز والتتابع الهرمي، للشعر المرتبة الأعلى، ثم القصة، فالرواية.

مع أنّي لم ألمس أن ثمّة موجة عامّة لدى كتّاب القصّة والشّعر للتّقليل من شأن الرّواية، بل ألمس موجة عامّة من التّحوّل نحو الرّواية، وتبجيلها، واعتبارها ديوان العصر، طمعًا في الجوائز والشّهرة والحظوة والاعتراف، إلا أنني سأشدّد على قضيّتين تتعلّقان بالهرميّة التي ذكرتها.
أولًا: دور أكثر جوائز الرّواية في انهيار المستوى الفنّي للكتابة، والإسهال الكميّ، خصوصًا في ظلّ انعدام أيّة معايير منطقيّة/فنيّة واضحة لها: الموضوع موضوع علاقات وتعقيم وحظّ ومحاصصات جغرافيّة وجندريّة وفساد (نسمع عن عروض تقاسم المبالغ الماليّة للجوائز بين مرشّحين لها، وأعضاء نافذين في لجان التّحكيم)؛ عندما تُفرز البوكر العربيّة، "أرفع جوائز الرّواية العربيّة" (كما تدّعي)، روايات رديئة في قوائمها الطّويلة والقصيرة، وتفوز فيها روايات ذات مستوى فنيّ أقلّ من متواضع، ستنهال الرّوايات من كلّ حدب وصوب، لعلّ الحظّ، وترتيبات الصّدف والعلاقات، تُعلي صاحب الحظّ السّعيد إلى مصافّ المشاهير! هذه أعراضٌ لم يُسمع عنها إلا منذ تحوّلت الرّواية إلى سلعة الأدب المفضّلة. تحدّثت كثيرًا عن أسباب هذا التحوّل لذا لن أكرّر، محيلًا القارئ إلى مقالتي الموسّعة: "الفنّ في مواجهة السّلعة: لماذا نكتب القصة القصيرة في زمن الرّواية؟".
إذًا "موضة الرّواية"، أو "تسليع الرّواية" لأكون أكثر دقّة، وانخراط الكتّاب بانتهازيّة لا نظير لها في هذا التّسليع، هو المسؤول عن "الكمّ" الذي دفن "النّوعيّة"، وانهيار المستوى الفنيّ، واللّهاث لإصدار رواية كلّ عام (على الأقلّ) للبقاء "في السّوق"، والحفاظ على فرص التقدّم للجوائز سنويًّا لزيادة فرص الفوز. لا تفوتني هنا الإشارة إلى محاولات بعض ناشري كتبي للنقّ عليّ لكتابة رواية، أو ملاحظة أحدهم عندما سألته عن هذه "الرّوايات السنويّة" للكتّاب، وإفراد صدارة جناح الدّار للرّوايات الجديدة، فأجاب: المُشتري يسأل دومًا عن الرّوايات الجديدة بغض النّظر عن الكاتب، لذا فجديد الكاتب يحمل ويسوّق قديمه!
ثمّ، نعم، لن أُجامل: الشّعر والقصّة أجود فنيًّا (بالمعنى الإبداعيّ الصّرف)، وأسباب ذلك أتوسّع فيها في مقالتي "الفن في مواجهة السّلعة" المذكورة سابقًا، أما لجهة الكمّ، فأستطيع أن أسمّي لك عددًا معقولًا من كتّاب القصّة المبدعين، والشّعراء، وسأتلعثم كثيرًا أمام الروائيّين. خذ عندك آخر رواية فازت بالبوكر العربيّة قبل أيّام، هي فضيحة فنيّة بامتياز، ينبري لها النقّاد الآن بالمديح والثّناء والتّبجيل والتّعظيم؛ كيف ستؤثّر هذه الرواية (ومثيلاتها) على الكتابة؟ وماذا ستُنتج خلفها من الرّوايات على يد روائيّين طامحين بالمكانة نفسها فيقتدون بها.
علينا أن نكون صريحين تمامًا مع أنفسنا: الجوائز الكرنفاليّة زادت في تعهير الكتابة، وسلّعتها بعد أن انضمّت سلطة السّوق إلى سلطة السّلطان، وصارت النّجوميّة والأموال جزءًا من أحلام الكاتب؛ تلك هي تجليّات "زمن الرّواية" الفعليّة. يبقى الشّعر وتبقى القصّة على هامش كلّ ذلك، ومهما فعلت الجوائز فيها فهي غير قابلة للتحوّل إلى سلعة، أو هي أكثر مقاومة للتّسليع لسبب موضوعي: أنّها ثقيلة الوطأة، ويحتاج قارئها إلى الكثير من العمل في النصّ ومعه، وهي غير مريحة في التّعامل (لا يعتاد القارئ على أنماط أحداثها وشخصيّاتها لمرّة واحدة، وعليه أن يدخل "جوًّا" جديدًا مع كلّ نصّ أو قصيدة). 
 

في مواجهة الكسل المعرفيّ

على ذكر "التفاحة المعلقة على الشجرة" وبطلها الذي يكتب القصة، يحضر هشام البستاني بهيئته الواقعية في بعض النصوص عبر إشارات صريحة، في المتن؛ كإعلان الراوي عن وظيفته "طبيب أسنان" في نص من النصوص، أو كقاص في نصوص أخرى، أو في الهامش؛ كمُستَكتب من قبل مجلة أدبية، وربما يكون لذلك الظهور غرض فني مثل كسر الإيهام، ولكنه يربط الكاتب أكثر بمواقف أبطاله ومصائرهم، فتبدو كانعكاس لوضعه الشخصي، وكأن الصورة التي بدت عليها الذات الساردة المظلومة/المتمردة/ الطيبة في الكتاب هي الصورة التي يريد الكاتب أن يرسخها عن نفسه في الواقع. أفترض ذلك وأنا أتتبع الصورة السلبية لامرأة الطبقة الوسطى التي ظهرت في قصة "التفاحة المعلقة على الشجرة" كزوجة البطل الشريرة الظالمة، ثم صارت تتقلب في القصص اللاحقة بين نماذج متعددة للسفه، في حين لم يظهر لها أي مثيل من الذكور.

هناك سبب طريف يقف خلف القصص التي تنتقد المرأة الغائصة في الاستهلاك، أو امرأة الطّبقة الوسطى كما سميّتَها، يُعيننا على فهم السّياق الذي أنتج هذه القصص.
في أوائل العام 2016، طلبت منّي إحدى محرّرات مجلّة "سيّدتي" أن أحلّ ضيفًا على زاوية في المجلّة، أكتب فيها أربع مرّات. تهرّبت مرارًا من الأمر (ما الذي سأكتبه لمثل هذه المجلّة، وأنا أكتب ما أكتب: أجواء سوداويّة، ونقدًا لا يوفّر شيئًا، ولا يستجيب لأيّ رقابة؟). في النّهاية، قرّرت أن أكتب ما سيكون نقدًا شرسًا لما تمثّله المجلّة نفسها، وجمهورها من النّساء المرفّهات، فظهرت إلى الوجود النّسخ الأولى من "الصّوتُ القادمُ من الغرفةِ الصّغيرةِ المُلحقةِ بالمطبخ"، و"بالضّربةِ الفنيّةِ القاضية"، و"رائحةٌ غريبةٌ في الأرجاء"؛ وقلتُ في نفسي:"سيرفضون نشرها، فأرتاح من إصرار المُحرّرة، وأكسب مجموعًة من القصص الجديدة في موضوع طريف". لكن المعجزة تحقّقت، ونشرت مجلّة "سيّدتي" (دون أي اعتراض) قصصي التي تهجوها دون هوادة، وتهجو قارئاتها بالتّحديد! علينا أن نُبقي هذه المُلاحظة حاضرة لنفهم استهداف هذه القصص لنوع محدّد من النّساء السّطحيّات دون الرّجال السّطحيين (وهم كثر طبعًا)؛ فهي كتبت لأولئك النّسوة بالتّحديد، عبر مجلّة تتوجّه إليهنّ، لا إلى الرّجال.
على المستوى الأعمق، هناك جانبان لهما علاقة مباشرة بملاحظتك: الأولى، وهي ملاحظة يشدّد عليها فرانك أوكونر في كتابة الأساسيّ عن القصّة: "الصوت المتوحّد"The Lonely Voice ، أن هذا الشّكل الكتابيّ يبرز فيه "صوت الفنّان" أو الكاتب بشكل حاسم، صوت ذاتيّ منعزل، ومغترب، يتحدّث بلسان نفسه وهمومها(بالمعنى الإبداعيّ)، بعكس الرّواية، التي يسميّها أوكونر: "صوت المجتمع".
في القصّة، وأيضًا في الشّعر، تظهر ذات الكاتب، ورؤاه عن الوجود، وتعبيراته عنه، بشكل أوضح وأَحَدّ. الرّواية بحث (أفقيّ) في العلاقات والمواضيع، لهذا يسمّيها أوكونر: فنّ تطبيقيّ، أما القصّة (والشّعر) فهي اشتغال عموديّ في الموضوع (أو الحدث)، مجالُ ظهور الرؤية الفنيّة والإبداعيّة للكاتب بوضوح فيها أكبر. قد يفسّر هذا –جزئيًّا- طغيان صوت الرّاوي الذّكر على النّصوص لانتماء النصّ إلى صوت كاتبه، لكنّه بالقطع ليس نصًّا ذكوريًّا (بل العكس هو الصّحيح)، والصوت ليس لذكرٍ "تقليديٍّ" أو نمطيٍّ من جهةٍ ثانية، وهذا الصّوت ليس مقصودًا لذاته، فهناك قصص لي مكتوبة بأصوات إناث، مثل "كوابيس المدينة" و"سقوط حرّ في مرآة مهشّمة"، وكلتيهما في كتاب "الفوضى الرّتيبة للوجود"، لكنّ الواضح أنّني أرتاح أكثر بالاشتغال على صوت ذكر وإنطاقه.
يبقى (في هذا الجانب، قبل الانتقال إلى الجانب الثاني) أن أُذكّر بأن الشخصيّات لا تلعب دورًا مركزيًّا في قصصي ونصوصي. بناء الشخصيّات أمرٌ هامشيّ بالنّسبة الي؛ أنا أهتمّ بالحدث event، وهو مركز اشتغالي الفنيّ، والحدث (كما تعلم) بلا جنس أو نوع اجتماعيّ بالمعنى المباشر، ويرتبط ببنى القمع البطريركيّة بالمعنى الاجتماعيّ الأعمق، لذا يمكن أن تقول العكس: أن نصوصيّ نسويّة feminist )بالمعنى الرّاديكالي، لا السطحيّ، المتعارف عليه بسذاجة، للكلمة).
يأخذنا هذا مباشرة إلى الجانب الثاني: المرأة كهدفٍ، وموضوع، للتّسليع والاستهلاك في سياق الرأسماليّة وأنماطها التي تُفرض من خلال آليات بروباغاندا هائلة الإمكانات والتأثير، هي آليات التّسويق (التي تنتمي إليها المجلّة التي كُتبت لها هذه القصص). تخاطب أغلب الإعلانات النساء، ونجد أنّ أغلب شخصيّات الإعلانات الرئيسيّة هم من النساء أيضًا. تسليع النّساء مزدوج، باعتبارهن هدفًا رئيسيًّا للاستهلاك من جهة، ومادّة مُسلّعة مُوظّفةً في إعلان لدفع الاستهلاك نفسه، من جهة ثانية. 

- تعتمد في بعض النصوص على إحالات لحوادث تاريخية مثل مذبحة تل الزعتر، أو لأعلام مثل نجيب نصار الذي أوردت في الكتاب قصة تحمل اسمه، وربما يكون نصار أو المذبحة غير معروفين لبعض القراء، على الرغم من أن معرفتهم ضرورية –خاصة الأخير- لفهم النص، ألم تخش من ذلك؟

كنتُ في السّابق أُراعي القارئ كثيرًا، فأستخدم الهوامش بكثافة لشرح مع قد أمرُّ عليه من أحداث أو شخصيّات أو مفاهيم علميّة أو اتجاهات فنيّة داخل النصّ قد تُلغز عليه أو تَغْمُض. ستجد عددًا كبيرًا من هذه الهوامش في كتبي الثّلاثة الأولى: "عن الحبّ والموت"، و"الفوضى الرّتيبة للوجود"، و"أرى المعنى".
بعدها صارت علاقتي مع القارئ مختلفة، أو لنقل: أعدتُ تعريف هذه العلاقة.لم أعد أكترث بالقارئ الكسول، وصرت أمقت قارئ "الرّائج" والمطلوب والمنتشر والسّهل، لذا حاولت التخلّص من الهوامش والتّقليل منها في كتابي الرّابع "مقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل"، ومع الكتاب الخامس الصّادر مؤخّرًا: "شهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء" انتهيت من الهوامش بشكل شبه تامّ.
 
جزءٌ من مفهوم الكتابة عندي (سواءً الأدبيّة وغير الأدبيّة) يرتكز على مواجهة الكسل المعرفيّ، والتخلّص من التلقيّ السلبيّ. عند جمهور اليوم وسائل بحث غير محدودة، فليغلّب القارئ نفسه في البحث والاطلاع وبناء شكل من أشكال التّراكم، عندها ستكون إمكانيّة شراكته في النصّ والتأثير فيه واجتراح مآلاته أكبر، وكذلك حصيلته المعرفيّة والفنيّة، وبالتالي ترتفع القيمة المعرفيّة والفنيّة للنصّ نفسه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها