الإثنين 2018/05/28

آخر تحديث: 12:29 (بيروت)

الغرب؟ إنه اختراع الشرق والغرب والشيوعية والاسلام!

الإثنين 2018/05/28
الغرب؟ إنه اختراع الشرق والغرب والشيوعية والاسلام!
هل كان العرب أجدر بوضع كتاب عن مفهوم "الغرب"؟
increase حجم الخط decrease
هل كان العرب أجدر بوضع كتاب عن مفهوم "الغرب" الذي يسيل في ثنايا كلام الناس والنخب كالماء أو الهواء، من دون أي يتوقف أحدهم لحظة ليلتقط أنفاسه ويسأل: "الغرب"؟ عَمَّ نتحدث بالضبط؟ ربما ليس العرب، إذاً لعلهم الصينيون الذين يتضمن خطابهم السياسي منذ زمن الاسكتشافات البحرية الكبرى و"حرب الأفيون" في القرن التاسع عشر، تعبير "البيض الشياطين" Les Diables Blancs في إشارة طريفة إلى "الغرب" تجعله مغايراً انطلاقاً من لون الجلد، وتصفه بشيء من الشيطنة بأثر من سياسة استعمارية مريرة طاولت بلاد الأباطرة الذين كان قدماؤهم يظنون أن "الغرب" هو كل ما يقع خارج حدود بلادهم. والطريف في التعريف الجلدي- الصيني لـ"الغرب" هو انه يتطابق، ربما من دون علم من اطلق ذلك التعبير في وقته، أن "الغرب" نظر إلى نفسه طويلاً باعتباره "الأبيض" قبل أن ينتقل إلى وصف ذاته بأنه... "الغرب"!

وإذا لم يكن العرب والصينيون أولَى بتعريف "الغرب"، فلماذا لا تكون الأولوية للروس؟ إذ تأسس تاريخهم القريب نسبياً على قياصرة يحاولون جعل روسيا جزءاً من "الغرب"، بمعنى الانخراط في "تغريب" Occidentalism بإرادة منها تهتم بنقل التقدم في نمط الحياة الذي تعيشه أوروبا، من دون ان يكون مفروضاً بالقوة، بمعنى أنه ليس استلاباً وقهراً، ليس "غربنة" Westernization، على رغم أن آخِر رئيس للاتحاد السوفياتي (ذلك الكيان السياسي طالما وُصِف بأنه سليل اشتراكي للقياصرة الاقطاعيين)، لم يكن الاعلام الغربي يأنف من وصفه بأنه "مغربِن" Westerinzer، لكن الرئيس السابق ميخائيل غورباتشوف كان يرى علاقته مع الغرب نديّة، وأقرب الى "التغريب" عبر تبنٍ وقبول بمشروع الحداثة العقلاني الكبير.

روسيا؟ لم لا؟
إذاً، لم لا يشار بديهياً إلى روسيا باعتبارها "غرباً"؟ هل ساهم في ذلك كون روسيا معقل الأرثوذكسية بعلاقاتها المتشابكة (بعضها فائق الدموية أيضاً) مع الغرب الاوروبي الذي وصف نفسه كثيراً بأنه استمرار للامبراطورية الرومانية في مرحلتها المسيحية، حتى في عز الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت في تلك القارة؟ هل "الغرب" أيضاً يستثني الأرثوذكسيّة؟ ما علاقة "الغرب" بوصفه نمطاً تحققت فيه مشاريع التنوير والنهضة والعقلانية الحديثة (وكذلك الانتقال من الثورة الصناعية والرأسمالية ونظام الحكم التمثيلي الديمقراطي) مع المسيحية ومساراتها؟ ألم يعتبر "الغرب" هزيمة روسيا أمام اليابان في حرب 1905 هزيمة أولى لـ"الغرب" المتسربل بمفهوم الأبيض آنذاك، أمام الشرق المتسربل بمفهوم أصحاب الجلود الملوّنة؟ ألم يكن لينين وتروتسكي وقادة حزب البلاشفة الذي تزعّم ثورة 1917 الاشتراكية، واضحين في انتمائهم إلى "الغرب"، بدءاً من اقتدائهم بأساتذة أوروبيين غربيين خصوصاً الألماني كارل ماركس والبريطاني فريدريك انغلز (ومن دون نسيان هيغل وآخرين)، وليس انتهاءً باعلانهم السعي إلى اقصاء حكم القياصرة كي تسير بلادهم على نمط الحداثة الغربي السائد في أوروبا، خصوصاً في ألمانيا؟ متى صار الغرب أميركا، فأدّت الحرب الباردة معها الى ابتعاد يشبه الانقسام المتعدّد الأبعاد، بين أوروبا وروسيا التي هي قلب أوراسيا؟ 

الأرجح أن ذلك النوع من الأسئلة، ربما لا يتوقف عن التدفق عند قراءة كتاب "فكرة الغرب: الثقافة والسياسة والتاريخ" The Idea of the West: Culture, Politics & History الذي صدر أخيراً ضمن سلسلة "ترجمان" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". والكتاب الذي ترجمه أحمد مغربي، هو من تأليف آلاستير بونيت، أستاذ الجغرافيا الاجتماعية في جامعة "نيوكاسل" البريطانية. وتضم قائمة كتب بونيت "هويّات بيضاء: مقاربات تاريخيّة ودولية" (صدر عام 2000)، و"ضد العرقيّة" (2000)، "كيف نناقش؟: دليل للطلبة" (2001)، و"ماهي الجغرافيا" (2008)، "متروكين في الماضي: الراديكاليّة وسياسات النوستالجيا" (2010). ومن اللافت أيضاً أن بونيت ترأس تحرير مجلة طليعية هي "تعدّيات: مجلة للاستكشاف الحضري" بين عامي 1994 و2000. وتصف تلك المجلة نفسها بأنها تتعامل مع جغرافيا السيكولوجيا، وتتناول غالباً مجالات غير مألوفة، كالكتابة عن "الماركسية السحرية" للمفكر اليساري الأميركي هاري هاروتينيان، وهو من ماركسيي ما بعد الحداثة.

من أزمة الرجل الأبيض إلى تأزم العولمة 
ليس غريباً أن يحمل كتاب "الغرب..." نوعاً من التعديات أو التجاوزات الفكرية، ولعله الطابع السجالي الذي يسم الكتاب بأكمله، فلا يقدم إجابات بقدر ما يعنى بالوصول إلى أمكنة شائكة غير مألوفة مع عرض آراء تتسم بالتحدي، بل يتحداها بنفسها عبر طرح أسئلة متنوعة عليها.

ويبرز ذلك المزيج من الخروج عن المألوف وطرح التحديات، من مقدمة الكتاب التي يسأل بونيت نفسه فيها عن معنى كونه هو "غربياً" أو أن يوصف بذلك، سواء في الغرب أو خارجه. ويميز بين الغرب كجهة في الجغرافيا (وهو أمر ليس سهلاً بحد ذاته) ليركز على "الغرب" كمفهوم حديث يرتبط بمشروع الحداثة والعقلانية والصناعة، ثم ما بعد الحداثة والعولمة، إضافة الى تنقل جغرافي في مركز ثقله بين القارة الأوروبية على امتداد زمن ما بعد القرون الوسطى، ثم تمركزه في الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية، بل شمل بطريقة ما اليابان أيضاً.

وفي ارتياد غير المألوف، يبرز استعراض بونيت لكتابات معروفة في التاريخ الأوروبي بأنها "كتابات أزمة الرجل الأبيض". وتضم مفكرين ربما يألف الجمهور العربي إثنين منهم، وهما البريطانيان المؤرخان أوزوالد شبنغلر (واضع كتاب "أفول الغرب") وأرنولد توينبي واضع الموسوعة الأكاديمية الشهيرة "دراسة للتاريخ". إذ بَكَتْ تلك الكتابات على تفكك هيمنة الرجل الأبيض على المستعمرات، بل تنبّأت بحسرة بحدوث "مدٍّ من امبراطوريـات الملونين"!
ويرى بونيت أن توينبي جمع عجرفة الرجل الأبيض مع تواضع المؤرخ الثاقب النظر بقوله "التواريخ السابقة لمعاصرينا الصاخبين، بل الذميمين أحياناً – الصينيين واليابانيين والهندوسيين والمسلمين، وإخوتنا الكبار الأرثوذكسيين المسيحيين- ستُضحي جزءاً من تاريخنا "الغربي" في عالم المستقبل الذي لن يكون "غربياً" ولا غير "غربي"، بل تكامل للثقافات التي عملنا نحن"الغربيون" على تشكيلها الآن، في بوتقة واحدة"!

وعبر تلك الكتابات، يعرض بونيت تنقل أوروبا بين مفاهيم المسيحي والأبيض، قبل استقرارها على مفهوم "الغرب"، مشيراً إلى أن النفعية الاجتماعية هي المحرك الأبرز في ذلك الانتقال الذي لم يكن سهلاً، بل ظل متشابكاً. وعند ظهور البروتستانتية، اعتبرها هيغل "شمس عصر التنوير... وانتقال نهائي لروح الوعي الانساني من الشرق إلى الغرب"، مع ملاحظة من بونيت بأن هيغل لم يهتم كثيراً بتعريف معنى الغرب الذي قصده، فظل سيالاً بين الجغرافيا الأوروبية وتطور روح التاريخ في المسيحية عبر التنوير والبروتستانتية والعقلانية.

إذاً، ساهم "الغرب" في صوغ مفهوم "الغرب"، قبل أن يصبح مشروعاً واجباً استنساخه إلى حد الاستلاب والاغتراب في تركيا اتاتورك وإيران الشاهنشاه. وتدفقت مفاهيم متنوعة عن "الغرب" مع حركات التحرر في العالم الثالث، وصولاً إلى الراديكالية الاسلامية التي مزجت التحرر من الهيمنة الاستعمارية مع الهوية الاسلامية الدينية، وفق رؤية بونيت. واعتبر بونيت العولمة "غرباً" متوحشاً أدى إلى ردود أفعال لا حصر لها، من بينها الارهاب المعاصر. واختتم إلى شيء قريب من مقولات توينبي [بل إدوارد سعيد الذي يساجل الكتاب معه سجالاً مشوقاً]، شيء من دعوة إلى ترك العولمة النيوليبرالية إلى مصيرها الفاشل، والانخراط في حوار عالمي عن مشروع حداثي بمعنى ما، لكنه يكون نتيجة تفاعل إيجابي بين "الشرق" و"الغرب".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها