الجمعة 2018/05/25

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

الفيلم اللبناني الذي صُنع في تايوان

الجمعة 2018/05/25
الفيلم اللبناني الذي صُنع في تايوان
الصراصير تتبع حساً غريزياً يسعى فقط إلى البقاء
increase حجم الخط decrease
رغم أن أحداث فيلم تساي مينغ ليانغ الأيقوني The Hole تجري في مدينة بعيدة هي العاصمة التايوانية تايبيه، إلا أن سيناريو الفيلم، كان يمكن أن يخرج من مخيلة لبنانية تعيش في بيروت، المدينة التي يختبر سكانها علاقة مريبة في المجال العام الملوث والموبوء، وهي النائمة على أزمة نفايات يمكن أن تتحول في أي وقت إلى مكب ضخم كما حصل في العام 2015.

تجري أحداث الفيلم خلال أزمة نفايات متخيلة تصيب تايوان، وينتشر بسببها وباء معد في المياه الجوفية، وهو سيناريو كان متوقعاً حدوثه في لبنان. عوارض الوباء في البداية هي كالإنفلونزا إلا أنها لاحقاً تتحول إلى سلوكيات شبيهة بالصراصير، حيث يمشي المصاب على أربعة، باحثاً بشكل هستيري عن أمكنة مغلقة ومظلمة.

صوّر الفيلم في مسكن شعبي عبارة عن مبنى ضخم يشبه مباني كوربوزييه، في داخله سوق ومرافق عامة وهو نموذج رائج في تايوان، تبنيه الدولة لذوي الدخل المحدود بسبب أزمة مساكن ناجمة عن ارتفاع الأسعار والنمو المتسارع للمدينة، بسبب المضاربات العقارية، والهوة التي تفصل الطبقة العليا عن الطبقات الفقيرة والوسطى، الذي أدى إلى استقطاب مكاني Polarization حاد وكثافة عمودية (يمكن أن يكون اللجوء إلى التكثيف العمودي وبناء الأبراج حلاً لأزمة بيروت السكنية وهو حل ينادي به مهندسون لبنانيون منهم برنارد خوري).


قصة الفيلم بسيطة جداً، ولا تختلف في بنيتها الهادئة ظاهرياً عن أفلام تساي مينغ ليانغ "الإختزالية" الأخرى: فتاة تعيش وحيدة في إحدى شقق المبنى، تتعرض إلى مشكلة نش من السقف. تضطر الفتاة إلى استقدام عامل تصليح يحفر أرضية الشقة العلوية التي يسكنها شاب وحيد أيضاً، ما يؤدي إلى إحداث ثقب صغير بين الشقتين.

لا تخرج الكاميراً نهائياً من المبنى إلى العالم الخارجي الذي نسمع عنه في التلفزيون فقط. تبدو الشخصيات غير آبهة أصلاً بما يحصل خارج المبنى، أو تشعر بالأمان فوق اللزوم داخل منازلها التي تظنها معزولة كلياً عن التلوث الخارجي، فتتجاهل تحذيرات الدولة للسكان من البقاء مع توقف جمع النفايات (تظهر بين حين وأخرى في الخلفية أكياس نفايات متطايرة من شقق الطوابق العليا)، مفضلةً البقاء في الروتين والعزلة. هذا الإنكفاء إلى الداخل يذكر بترند تسكير البلكون في بيروت، ليس فقط من أجل كسب غرفة بل لتكريس العزلة عن المجال العام الملوث.

ثيمة الفيلم الأساسية مكانية بامتياز، فالثقب الصغير يقرب بين الشاب والفتاة، مغيراً واقع الفضاء المكاني الذي يصبح متمدداً في الشقتين، وهو ما سيثبته لاحقاً سلوك الشاب الهوسي بمعرفة ما يحصل في الشقة الأخرى، مستفيداً من أفضلية وجوده في الأعلى. أما الفتاة التي يزيد شعورها بوجوده بسبب ارتفاع مستوى الأصوات التي تصل إليها من شقته، تجابه الثقب في البداية بسلبية محاولة إغلاقه، لكنها لا تلبث أن تستسلم له، مدخلةً إياه في خيالاتها الجنسية.


لا نعرف الكثير عن الشخصيات الرئيسة سوى أن الشاب يمتلك متجراً في سوق المبنى وهو يحتسي الكحول بانتظام، أما الفتاة فتعمل في وظيفة حكومية، وتجمع علب أوراق الحمام. عدم امتلاكنا معلومات عنهما يقلل من الفوارق بينهما ويزيدهما قرباً من المشاهد (يمكن اعتبار العالمية سمة من سمات أفلام تساي مينغ ليانغ ذي الأصول الصينية، المولود في ماليزيا والذي عاش في تايوان، رغم ضمه إلى الموجة السينمائية الجديدة التي حاولت إعادة تعريف الهوية الوطنية في تايوان بعد انتهاء الحكم العسكري، إلا أنه يبقى أقلها سياسية)، فهما يعيشان في شقتين متطابقتين، يعيدان نفس الأفعال يومياً، يبدوان من أعمار متقاربة، ويعانيان نفس العزلة، الكبت العاطفي، والإغتراب.

يترجم تساي مينغ ليانغ عالم الفتاة الداخلي ومشاعرها المكبوتة خلال الفيلم إلى يوتوبيا غنائية راقصة تؤديها في المصعد، درج السطح، الرواق، ودرج القبو، ويكون الشاب غالباً جزءاً منها، حيث تستهلك فضاءات المبنى المحدودة، بحركات إغرائية نشطة وإنفعالية، مقدمة واقعاً بديلاً للأمكنة التي يسيطر عليها الروتين في العادة. حيوية هذه المقاطع تعيد بعضاً من التوازن للفيلم البطيء والبارد بشكل عام، وتعوض عن العجز التواصلي والتعبيري الذي تعاني منه الشخصيات (في أحد المشاهد تتلصص الشخصيتان في نفس الوقت على بعضهما في مساحة مشتركة من المبنى هي الدرج) وهي تجربة عاد وكررها المخرج لاحقاً في الفيلم شبه الإباحي The Wayward Cloud.


تمثل الفتاة دور غرايس تشانغ، المغنية التي كانت معروفة في الستينات والسبعينات في العالم المتكلم بالصينية، وقد شاركت في عدد كبير من أفلام هونغ كونغ الغنائية. يقدم المخرج من خلال هذه المقاطع مستوى آخر من العلاقات العاطفية الخصبة ومفرطة الرومانسية التي كانت سائدة سابقاً، واضعاً إياها في مقارنة مع علاقات اليوم "المسلعة والمعلبة ميديوياً في تنميطات وصور تسخف الرومانسية وتحولها أكثر من أي وقت مضى إلى سلوك خارج عن السياق".

المكان في أفلام تساي مينغ ليانغ غنيّ برموزه، وفي مواجهة دائمة مع الأجساد الإنسانية المنعزلة والعاجزة. فهو يأخذ الصدارة أحياناً، مؤدياً وظيفة التعبير عن تطلعات الشخصيات وأحلامها وعلاقات القوة بينها. في أحد المشاهد وبعد مرور أيام على مراقبته الفتاة من الثقب، يأتي العامل مجدداً لإنهاء المشكلة في شقة الشاب، إلا أن الأخير لا يفتح له الباب، مفضلاً إبقاء الثقب، ثم لاحقاً ينظفه من الحجارة ليتلاءم مع محيطه، وينام قربه. يستمر الإثنان على هذه الحال حتى إصابة الفتاة بعوارض الوباء، واختيار الشاب في آخر مشهد من الفيلم إعلان وجوده في الأعلى، من خلال إنزاله لها كوب ماء.


يقول تساي مينغ ليانغ إن "التشاؤم قدر كل من يدخل تايبيه" المدينة التي ابتلعها اقتصاد السوق و"عزز الفارق بين التطلعات التي يحملها الأفراد والواقع المادي الذي يعيشونه". الشبه بين تايوان ولبنان يكمن في تحكم مجموعة صغيرة من السياسيين ورجال الأعمال بمصير البلاد، وتدميرهم البيئة والمياه من أجل تحقيق أرباح مادية وآنية. طبعاً السياق الإقتصادي مختلف في تايوان التي أرادت بعد انفتاحها على اقتصاد السوق في بداية الثمانينات أن تتبنى طرق الحداثة والتطور التكنولوجي كما جاراتها في آسيا الشرقية، لكن العواقب الذي أحدثها الدخول في النيوليبرالية أدى إلى عواقب شبيهة بالتي حصلت في لبنان من تدمير للمجتمع الريفي وإدخاله عنوة في الحداثة المدينة والعلب ضئيلة الحجم في الأحياء المكتظة التي يعيش فيها الناس وفق تساي مينغ ليانغ كـ"الصراصير التي تتكيف في أسوأ الأوضاع مفتقدةً الكرامة، ومتبعةً حساً غريزياً يسعى فقط إلى البقاء".

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها