الخميس 2018/05/24

آخر تحديث: 14:33 (بيروت)

حزب الله: الفائض الثقافي

الخميس 2018/05/24
حزب الله: الفائض الثقافي
الاهتمام العالمي بنادين لبكي في "كان" لم يُفضِ إلى نقاش فيلمها، بل إلى سجال العداء للغرب (غيتي)
increase حجم الخط decrease
... وأخذ النائب عن "حزب الله" نواف الموسوي، ومعه مذيعة تلفزيون "المنار" منار صباغ، نصيبهما الوافي من الشجب، بل والتقريع الضروري، إثر تحقيرهما لفوز المخرجة اللبنانية نادين لبكي بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان "كان"، وتنطّحهما العجيب لحصر "مجد" لبنان ومعنى الانتماء إليه في سلاح "المقاومة" وقتلاها. بل جاء بيان الحزب، المتبرّئ من تغريداتهما، بمثابة اعتراف بالخطأ واعتذار عنه.. وهو اللاعب المحنك، الذي يجيد ترتيب أولوياته واختيار معاركه، على الأقل في الداخل اللبناني.

غير أن مزيداً من التأمل في بلبلة الأيام القليلة الماضية، ربطاً بمحطات مشابهة رسمت ملامح علاقة "حزب الله" بالأوساط الثقافية اللبنانية، قد يبلور فكرة إضافية: الفائض الثقافي.

فكما أن فائض القوة الذي يتمتع به "حزب الله"، بأثر من سلاحه الخارج على الدولة اللبنانية، يتيح له هامشاً واسعاً للتحكم في مفاصل السياسة والأمن، بل والاقتصاد والاجتماع أحياناً، فإن "ثقافته" الممهورة بمعنى السلاح هذا وتمجيد الموت، تنحو إلى مزيد من الهيمنة على الحياة الثقافية اللبنانية وسجالاتها.. حتى حينما يردع الحزب مناصريه، وتعلو أصوات مناهضيه بفضل قدر لا بأس به من الحرية التي تؤمنها التركيبة اللبنانية المعروفة.

في موضوع نادين لبكي، حُجّمت ثقافة "حزب الله"، وربما رُدِعت لفترة مقبلة. لكن، وبمجرد أن النقاش الثقافي، الذي استعر لأيام، حَكَمته بديهيات الدفاع عن إنجاز فني (ليبرالي) لبناني، في مواجهة إيديولوجيا الحزب، فهذا ما يضع "الثقافة الإلهية" في موضع الناظم لجزء معتبر من الجدلية الثقافية في البلد. هكذا، وبدلاً من أن تكون جائزة لبكي مناسبة لنقد فني وسينمائي، ربما لا يصبّ كاملاً في خانة المديح لفيلمها، تحولت جائزة لبكي إلى محطة لاجترار مسلّمات يفترض أن النخبة الثقافية والإعلامية تجاوزت معظمها، لا سيما سخافة العداء الثقافي للغرب و"الرجل الأبيض"، وبداهة أن "الشهداء" لا يصنعون ثقافة ولا مجداً، بل إن موتهم يفرض التفكّر فيه، ثقافياً وسياسياً، من أجل وقفه، على غرار ما يحدث في أي مجتمع سويّ يواجه مأساة.

وبعودة سريعة إلى الأرشيف، تتجلى هيمنة الفائض الثقافي لـ"حزب الله" على نوعية الحوار الثقافي اللبناني.

فعدد المقالات التي انبرى أصحابها – عن حق – للرد على دعوة حسن نصر الله وحزبه، بل ومؤيديه من داخل الدائرة الإعلامية والثقافية الأكثر تأثيراً، لمقاطعة فيلم ستيفن سبيلبرغ الأخير"ذا بوست" بحجّة دعم المخرج لإسرائيل خلال حرب تموز، عادَلَ وربما فاق عدد المقالات والتقارير التلفزيونية التي راجعت الفيلم، كسينما فذة وتحية ذات دلالة عميقة لنوع صحافي مهدد بالانقراض في أميركا والعالم.

كما أن الحملة التخوينية التي شنتها أبواق الممانعة، على المخرج اللبناني زياد دويري، عشية بدء عروض فيلمه "القضية رقم 23" الذي رٌشّح للأوسكار، وبمفعول رجعي عائد إلى فيلمه السابق "الصدمة" (2010) الذي صوَّره في تل أبيب، تساوَت، هجوماً عليه ودفاعاً عنه، مع التحليل السينمائي للفيلمين. بل لربما رجحت الكفّة لصالح الخطاب المنشغل بأسئلة التطبيع. وبعيداً من مشروعية الأسئلة هذه، وضرورة/خطيئة ربطها بالإنتاج الثقافي، فقد نجحت ثقافة "حزب الله"، مدعومة بضجيج أنصارها من بقايا اليساريين والعلمانيين الممانعين، في دوزنة النقاش الثقافي اللبناني على إيقاع "المقاومة"، دون المقامات الفنية والإبداعية التي قد تفرش مروحة نقدية متعددة التلاوين السلبية والإيجابية.

وكثيرة هي الأمثلة عن أفلام لمخرجين إيرانيين معارضين، مُنعت عروضها في مهرجانات لبنانية بدعوى "الإساءة إلى بلد صديق" (أي النظام الإيراني)، أسوة بأفلام أميركية ولبنانية إلتهَمَها بعبع التطبيع (وإثارة النعرات الطائفية وخدش الحياء العام والإساءة إلى صورة لبنان)، وابتلع معها فرصة إخضاعها لمبضع التشريح الفني والثقافي والتاريخي، بل والسياسي الرزين. فأي حليف أفضل للعقلية المحافِظة، ورقابة أجهزة الأمن العام، من ثقافة "المقاومة"؟

هو التحالف الذي يكرّس تقديس الأشخاص، قبل "الشهداء" وبعدهم، كما هو حال فيروز بنسختها التي تديرها ريما الرحباني. فقبل أيام، أطلقت فيروز "أغنية" لفلسطين، تزامناً مع اقتراف الاحتلال الإسرائيلي بعضاً من أبشع جرائمه في حق الفلسطينيين، في غزة وسواها. الوقوف مع الفلسطينيين واجب أخلاقي وسياسي وثقافي أكيد. لكن، مَن يقول لفيروز، إذ تُنشد اليوم "إلى متى يا رب"، أن العُمر نال من صوتها الصادح الآن بمظلومية الفلسطينيين؟ وأن ترنّمها بترتيلة من سفر المزامير، في هذه المناسبة بالذات، يسبغ على تضامنها هالة دينية منفّرة؟ وأن ترتيلها الذي صاحبَته مشاهد الارتكابات الإسرائيلية وصورة المسيح، في فيديوكليب بدائي من توقيع ابنتها عديمة الموهبة، لا يشبه في شيء السياقات الفنية والتاريخية والسياسية لـ"زهرة المدائن" وسواها من نتاج الأخوين الرحباني المتأثر بالموسيقى الكنسية.. كما أنه لا يُقابِل ترتيلها داخل الكنيسة يوم الجمعة العظيمة؟ لا أحد سيقول شيئاً. وكما حصل حينما قررت جوليا بطرس غناء رسالة حسن نصر الله إلى مقاتلي "حزب الله" غداة "النصر الإلهي" في حرب 2006: إعلام "حزب الله" لن يبث صوت امرأة باعتباره عورة، والإعلام الموازي مأخوذ بالتقديس. فيما يتهيب نقّاد، وصَمهم بالعمالة أو كراهية الذات أو الاعتداء على القامات، فيدوِّرون زوايا التحليل. هكذا، تبقى الثقافة النقدية عملة صعبة في سوق الفائض الثقافي، محصورة في هوامش الاستثناء، أو متداوَلة بشروط صاحب الزمان. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها