الأربعاء 2018/05/23

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

كره الثقافة

الأربعاء 2018/05/23
كره الثقافة
increase حجم الخط decrease
ثمة خطاب كاره للثقافة في البلاد، وعلى ما يبدو أن "حزب الله" استدل إليه، مرتكزاً عليه من صفحته الثقافية في جريدة "الأخبار"، التي تبثه من وقت إلى آخر، أو بالأحرى بين كل دعايتين على شكل مقالتين، إلى تصريحات المتحدثين بلسانه، كنواف الموسوي في تغريدته الأخيرة على "تويتر" حول نادين لبكي، شخصاً وفيلماً وجائزةً. خطاب، يصح القول أن حزب الله، ومعه معسكره الممانع، هو المعبّر المباشر عنه، المذيع الأساس له، لأنه يتمكن من الإنتفاع به. لكنه، في الوقت نفسه، ليس حكراً عليه، بل إنه مهيمن. وهو يأخذ أشكالاً عديدة، كتحويل الشغيلة في القطاع الثقافي إلى موضوع سخرية، وإزدراء الفهم، وتمجيد السخافة، والإشارة الدائمة إلى كون الحصافة ضرباً من الغباء.

يصدر هذا الخطاب ضد الثقافة لأن مجالها هو تقريباً المجال الوحيد الذي يحاول أن يصوغ حديثاً يخص محيطه، إلا أنه غير متجانس معه. كما أنه المجال الذي في مقدوره أن يكون حياً، أكان على إثر الإصرار أو الإعتباط أو بالصدفة. إنه ليس "غيراً" فقط، بل هو "غير" مواظب، يستقبل في رجائه، وله إجتماعه، وأنماطه، وأسسه، وبديهياته، وطرق نظره، وتفكره، وكلامه، وله ماضٍ وحاضر، وربما، مقبل. له المقيمون الدائمون، وله اللائذون إليه، وله النازلون فيه، وله زواره الموسميون. إنه "غير" بفضائه، وضجيج إنتاجه، ومسائله، وصلاته، وشخوصه، مثلما إنه "غير" بمواقفه، واستفهاماته، ولغته. مجال يحاول أن يكون موطناً "غير"، ولهذا يكرهه محبو التماثل.

لكن، رغم ذلك، فإن هذا الـ"غير" له أزماته الملازمة له، أو لنقل أنه أزمة بعينها. وفي حال تلخيصها، يمكن القول أنه منغلق على ذاته، وأن علاقته مع خارجه شبه معدومة، وأنه استنقاعي بامتياز. وكل هذا، لأنه، وفي مجمله، أعاد فرز آليات محيطة به، وأنه استوى على آلياته ومعاييره المضرة داخله، التي تترافق مع مسالك الفوقية والعدمية، وبينهما، وَهمُ النجومية. هذا "الغير" صار معملاً للتشابه في القول، وفي الإدراك، وفي الإنفعال، وفي الفعل. معمل مقفل، وفي بعض الأحيان، يبدو متأرجحاً بين النتونة والإختناق. وفي أحيان أخرى، يتكشف عن كونه مجالاً مَوتِياً وليس حيوياً البتة. كأي جماعة بعد أهلية، هذا الـ"غير" قد ينقلب خطيراً، لا سيما في حال الجمود والبقاء داخله.

على أن الخطاب الكاره للثقافة، وككل شيء يكون الكره قوامه، لا يريد سوى أن يستدخل موضوعه، بطريقة معينة، وهي جعل هذا الموضوع، أي الثقافة، مشاكلاً له، بحيث تتمدد سلطته صوبه، وتمحو كل مغايرته. فبحسب هذه السلطة، الثقافة تريد أن تكون مطابقة لها، وخطؤها أنها غير قادرة على هذا التطابق (عن تعريف للعنصرية). ولهذا، يجب كرهها من خلال الاستيلاء عليها، وحضها على العمل لإلغاء نفسها بنفسها. هكذا، تمضي سلطة الممانعة، وعلى متن خطاب الكره، إلى الإنقضاض على مجال الثقافة، في حين أن هذا المجال يستسلم مسبقاً لها من خلال استقراره على كونه معمل التشابه الذي يتظاهر بأنه "غير".

بطريقة أخرى، كلما بقي مجال الثقافة على حاله الراهنة هذه، على حاله التعيسة فعلاً، فهو يحقق مبتغى الخطاب الكاره له، ويتيح لسلطة هذا الخطاب أن تستدخله، وتقبض عليه. مرة بإسم "الحرية"، كما تقول صفحتها، ومرة باسم أن "السلاح هو الذي يحمي فقط"، مثلما جاء في تغريدتها.

عندما بدأت الحملة الممانعة على نادين لبكي، كان لا بد من الدفاع عن العمل الثقافي، لكن كان لا بد أيضاً من التأكيد على أن كره الثقافة لا يجب أن يدفع إلى غض النظر عن حضيضها، التي تنتمي لبكي إليه، بحيث أنها من نجومه الذين يروجون لخطابه المبتذل، ولهيئته الفوقية. كره الثقافة هو الذي يدفع المجال الثقافي إلى التمسك بحضيضه على أساس أنه فردوسه، وعلى هذا النحو، ينتصر خطاب الكره. في الواقع، السلطة الكارهة للثقافة لا ترغب سوى في إبقاء هذه الثقافة على وضعها لأنه، وفي بعض الأوقات، يبدو السبيل الأفضل إلى اختفائها وانكشافها كمجرد "غير" مزيف.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها