الأربعاء 2018/05/23

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

ضياع "شعور أكبر من الحب": شهادتي

الأربعاء 2018/05/23
ضياع "شعور أكبر من الحب": شهادتي
كمال جنبلاط ومعروف سعد في انتفاضة التبغ
increase حجم الخط decrease
ما أكثر ما كتب، خلال عقود، عن انتفاضة مزارعي التبغ (كانون الاول 1972 -15 نيسان 1973)، وهي كتابات يغلب على معظمها، إما تناول وقائعها بشكل مجتزأ لا سياق له، واما تضخيم أدوار لأحزاب وأفراد. وآخر هذه الكتابات ما صدر خلال السنتين الاخيرتين، وصولاً الى الفيلم الوثائقي "شعور أكبر من الحب" للمخرجة ماري جرمانوس.

كنت آليت سابقاً على نفسي عدم التطرق الى وقائع ومجريات هذه الإنتفاضة، التزاماً مني بعدم الحديث عنها وعن الدور الذي لعبته فيها وخلالها. واليوم، وبعدما لحقها هذا القدر من التشويه، ومن محاولات توظيفها على نحو فئوي، رأيت ضرورة لعرض وقائع ومجريات هذه الانتفاضة.

وهنا لا بدّ، من الإشارة إلى أني اكتب عن هذه الإنتفاضة من موقع المشارك فيها، إعداداً لها، ومشاركة مباشرة في سائر مراحلها ساعة بساعة، على امتداد أربعة شهور قضيت منها مدة اربعين يوماً لم أذهب خلالها الى منزلي إلا لساعات، ثم تلتها فترة 27 يوماً منها حوالى اليومين في دائرة الأمن العام في صيدا، ويومين آخرين في نظارة المحكمة العسكرية في بيروت، تلتها فترة 23 يوماً في سجن الرمل في بيروت.

قبل سنتين، اتصلت بي المخرجة ماري جرمانوس، طالبة مساعدتها لإخراج فيلم وثائقي عن إضراب عمال معامل "غندور" وانتفاضة مزارعي التبغ. وكانت قد انجزت تصوير بعض مراحل انتفاضة المزارعين.

عقدنا لقاءات متتابعة، عرضت خلالها وقائع انتفاضة المزارعين، منذ الإعداد لها وحتى نهايتها، ثم وضعتني المخرجة في تفاصيل ما أنجزته حتى الآن، وطلبت مني المشاركة في تصوير بعض الوقائع.

هنا كان لي العديد من الملاحظات على ما أنجزته، لجهة النواقص الكثيرة، فضلاً عن، وهذا هو الأهم، أن ما أُنجز ليس سوى مشاهد متفرقة من الانتفاضة، لا يجمعها جامع ولا تندرج في إبراز السياق الفعلي لمجرياتها أو الدروس المستفادة منها، وطلبت منها الحفاظ على الحد الأدنى من إبراز هذا السياق. اخبرتني أنها لا تستطيع تعديل ما أنجز، لصعوبة ذلك، فأبلغتها بعد ذلك أني لست مغرماً بأن أشارك في تصوير بعض المشاهد في فيلم توثيقي لا يعكس الحد الأدنى من مجريات الإنتفاضة والسياق الذي تمت فيه.

بعد إنجاز الفيلم وعرضه، تأكدت لي صحة الملاحظات التي قدمتها، كون الفيلم أقرب إلى مَشاهد من هنا وهناك وهنالك، من دون أن يجمعها جامع أو سياق محدد. وتأكد لي أنه، رغم الجهد الذي بذلته المخرجة خلال سنوات ثلاث، وهي لها الفضل في إخراج هذا الفيلم الوثائقي، لكن يبدو أن كثرة وسعة اللقاءات والاتصالات التي أجرتها المخرجة، وتعدد المقاربات التي سمعتها، أدت الى ضياع المقاربة التي تعكس مجريات الانتفاضة.

بالعودة الى وقائع الانتفاضة ومجرياتها وسياقها، أشير إلى ابرز وقائعها ومحطاتها:

جرت العادة قبل مطلع كل سنة، وهو الموعد المتعارف عليه لاستلام المحصول من قبل شركة الريجي، أن تشهد أوساط المزارعين الكثير من اللقاءات والمداولات لبحث أشكال التحرك، دعماً لمطالبهم، وهو ما حصل أواخر العام 1972.

في هذه الاثناء، عقدنا لقاءات عديدة، ضمت محمود أبو زيد (الحزب الشيوعي اللبناني) والشهيد موسى شعيب (حزب البعث العراقي) وفؤاد المقدم (منظمة العمل الشيوعي) والسيد هاني فحص، وتم التداول في ما يمكن فعله، وأتُفِق خلالها على القيام بأوسع حملة في صفوف المزارعين وعدد من رجال الدين، للتشاور في الخطوات التي يمكن القيام بها لطرح مطالب مزارعي التبغ.

وفعلاً، وبعد القيام بحملة واسعة في صفوف المزارعين، تم الاتفاق معهم على البدء باعتصام في مبنى الريجي في الجهة الشمالية لمدينة النبطية. وخلال النصف الأول من كانون الثاني، بدأ اعتصام المزارعين في مبنى الريجي، بمشاركة عدد كبير من المعتصمين الذين اتفقوا على الاعداد لتظاهرة حاشدة، وهو ما حصل.

وبعد أوسع حملة اتصالات في صفوف المزارعين، وفي 22 كانون الثاني، تجمع في الساحة المقابلة للنادي الحسيني - ساحة الإمام الحسين - ما يقرب من خمسة آلاف من المزارعين، انطلقوا في تظاهرة نحو مبنى شركة الريجي. حينها، كنت قد كُلّفت بتجهيز سيارة عليها ميكروفون، واستعرنا سيارة فيات خاصة بالمزارع حبيب ياغي وعليها ميكروفون للسير في وسط التظاهرة والتذكير بمطالب المزارعين، إضافة الى عرض أبرز تحركات مزارعي التبغ على امتداد عقود. وقد كنت في السيارة مع الشهيد حسن بدر الدين (منظمة العمل الشيوعي)
عند وصول التظاهرة الى مدخل مبنى شركة الريجي، فبدأ عناصر قوى الأمن بإطلاق النار في اتجاه المتظاهرين مباشرة، ما أدى الى استشهاد مزارعي التبغ، حسن حايك ونعمة درويش العضو في الحزب الشيوعي اللبناني، إضافة الى 17 جريحاً في صفوف المتظاهرين.



إثر ذلك، تفرق المتظاهرون في كل الاتجاهات، ووجّهنا نداء عبر ميكروفون السيارة، يدعو المزارعين الى التجمع في النادي الحسيني. تجمع آلاف المزارعين في النادي المذكور، وبدأوا اعتصاماً استمر شهوراً. وتداول المعتصمون في الخطوات المقبلة لاستمرار تحركهم، وبرزت آراء متعددة: أولها، تشكيل لجنة دائمة لمتابعة تحركات المزارعين من الأحزاب والفاعليات ورجال الدين والمزارعين المعتصمين، تكون بمثابة لجنة دائمة. وثانيها، تسمية لجنة تضم عدداً من نشطاء المزارعين، تكون بمثابة لجنة دائمة. وثالثها، وهو ما اقترحناه ولقي استجابة من عدد واسع من المعتصمين، الإعداد لعقد مؤتمر لمزارعي التبغ يتشكل من مندوبين منتخبين من قبل المزارعين، والعمل على قيام لقاءات في كل القرى التي تزرع التبغ لحضور المؤتمر وانتخاب لجنة تأسيسية لنقابة مزارعي التبغ، كبديل من اللجان التي دأب أقطاب الإقطاع السياسي على تشكيلها، والتي تتشكل من كبار المزارعين من ازلامهم وحواشيهم، كما دأب هؤلاء الأقطاب على تحويل "الريجي" الى مزرعة خاصة، حيث يتحكمون برُخَص التبغ ويوزعونها على أنصارهم الذين يؤجّرونها بدورهم الى المزارعين.

بنتيجة التداول بين المعتصمين تم الاتفاق على التالي:
- القيام بأوسع حملة اتصالات في صيدا والجنوب وبيروت، تشمل الأحزاب الوطنية والهيئات النقاببة والعمالية والطلابية والتربوية والشعبية.
- الإعداد لمؤتمر لمزارعي التبغ من أعضاء منتخببن من قبل المزارعين، والمباشرة فوراً في لقاءات لمزارعي التبغ في جميع قرى الجنوب. 
- تثبيت مطالب التحرك بزيادة أسعار محصول التبغ بنسبة 25 في المئة. 
- إلغاء الغرفة الحديدية عند تسليم المحصول.
- زيادة عدد رخص التبغ، وتحديد الحد الأدنى للرخصة الواحدة، بخمسة دونمات، والحد الأعلى بـ25 دونماً ( كانت هناك رخص تصل الى 400 دونم).
- تشكيل لجنة مؤقتة لمتابعة التحرك القائم، وقد تم الاتفاق على تسمية كل من: السيد هاني فحص، وفؤاد المقدم، والشهيد موسى شعيب، وعلي عليق، وحبيب ياغي، كأعضاء في لجنة متابعة التحرك.

بعد يومين اعتُقلَ كل من فؤاد المقدم وموسى شعيب وظافر المقدم وحسن بدر الدين، وتم تحويلهم إلى المحكمة العسكرية (كانت كل القضايا تحول الى المحكمة العسكرية تحت عنوان ان منطقة الجنوب مصنفة منطقة عسكرية)، واتهموا بقتل المزارعين، ثم حوّلوا إلى سجن الرمل في بيروت، وأحيلوا إلى المحاكمة بموجب المادتين 549 و72، فتطوع خمسون محامياً للدفاع عنهم.

بعد أيام، دعت الأحزاب والقوى الوطنية والتقدمية، إلى تظاهرة في بيروت، شارك فيها 20 ألف متظاهر، وعلى رأسها كمال جنبلاط متكئاً على عصاه. وفي 2 شباط، ذكرى مرور أسبوع على استشهاد مزارعي التبغ، سارت تظاهرة حاشدة في النبطية، من عشرة آلاف متظاهر، على رأسها كمال جنبلاط ومعروف سعد والسيد علي مهدي ابراهيم. ومنذ اليوم الأول لاستشهاد المزارعين، تحول مركز الاعتصام الى محجّ لمئات الهيئات والروابط العمالية والطلابية والتربوية والشعبية. ومع هذا التحرك الواسع، والتظاهرات الحاشدة في بيروت والنبطية، تحولت قضية مزارعي التبغ الى قضية وطنية عامة، تطغى مجرياتها على المشهد الإعلامي والسياسي. وبعد 27 يوماً على استشهاد المزارعين، اضطرت السلطة الى زيادة اسعار التبغ 20 في المئة، والإفراج عن المعتقلين.

خلال شهرين، عقدت عشرات اللقاءات في سائر القرى، انتخب خلالها المزارعون ممثلين عنهم الى مؤتمر مزارعي التبغ. وذلك كله، بجهود ومشاركة عشرات النشطاء من المزارعين، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد نجيب الجمال، وحبيب ياغي، وعبد الله سرور، وعلي عليق، وعواضة عاصي، وصبحي حمادة.

عقد المؤتمر في مركز اتحاد نقابات العمال والمستخدمين، في صيدا والجنوب، في 15 نيسان 1973، وحضره 164 مندوباً، وأدارت المؤتمر لجنة تشكلت من: محمد نجيب الجمال، وحبيب ياغي، وفؤاد المقدم، وتم خلاله انتخاب هيئة تأسيسية لنقابة مزارعي التبغ.

حركة مزارعي التبغ ليست وليدة، أو صناعة أي حزب أو فرد بعينه، بل هي امتداد لعشرات التحركات التي قام بها المزارعون طوال عقود. وهي حركة، ساهم فيها آلاف المزارعين وعشرات النشطاء منهم، وهي ابنة التفاعل الحي والوثيق بين آلاف المزارعين، وبين اليسار اللبناني الذي لعب دوراً مشهوداً في نقل هذه الانتفاضة من حركة مطلبية الى قضية وطنية عامة، تقاطعت وترافقت مع تزايد واتساع التظاهرات والتحركات التي عمّت العمال والزراعيين والطلاب الثانويين والمهنيين وطلاب الجامعة اللبنانية وباقي الجامعات والمعلمين والمستخدمين والموظفين خلال تلك الفترة. ولم تكن تلك التحركات مجرد حدث مطلبي، بقدر ما شكلت حدثاً متقدماً في تاريخ الصراع السياسي في البلاد، وهذه الفترة هي بالضبط فترة صعود اليسار الذي حقق خلالها نمواً لا سابق له، من حيث الوزن والاتساع، في الأوساط الاجتماعية المتضررة من النظام، ومن حيث شموله مختلف المناطق اللبنانية، فانتقلت هذه التحركات من مستوى التعبير المطلبي عن مطالب قطاعية متفرقة، الى مستوى التعبير السياسي العام الذي دق أبواب النظام السياسي والطبقة السياسية وكشف مدى انغلاقهما على أي تعديل أو إصلاح، وهما اللذان حبسا التحركات المطلبية في قوالب طائفية وأجبراها على التعبير عن نفسها على مستوى طائفي.



وفي حين كانت جوانب من الصراع السياسي تأخذ طابعاً طائفياً، تمثل في نمو حركة المطالبة الطائفية التي كانت تصارع تحت شعارات إزالة الحرمان عن طوائف معينة، إلا أنه كان واضحاً أن هذه الشعارات التي تأخذ طابعاً طائفياً، إنما تغلف حيزاً من الصراع الاجتماعي المحتدم في المجالات كافة. وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة الى الدور البارز لعدد من رجال الدين الذين شاركوا في انتفاضة المزارعين، متجاوزين ومتمايزين عن حركة المطالبة الطائفية تلك.

تلك لوحة لوقائع ومحطات انتفاضة المزارعين، من دون التقليل من دور أحد، أو تضخيم دور أحد، حزباً كان أو فرداً، ما يساعد على تحرير تلك الانتفاضة من كل منوعات التشويه التي طاولتها. وهذه اللوحة لا تتسع لتفاصيل ويوميات الانتفاضة التي ينبغي توثيقها. لذا، هناك اتفاق بيني، وبين محمد نجيب الجمال، على توثيق انتفاضة المزارعين بتفاصيلها ومجرياتها ونشرها في كتاب يتناول هذه الانتفاضة والإنجازات التي حققتها نقابة مزارعي التبغ طوال أعوام بعد تشكيلها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها