الأحد 2018/05/20

آخر تحديث: 09:01 (بيروت)

أربعة أفلام مصرية في بيروت.. ما الجديد؟

الأحد 2018/05/20
أربعة أفلام مصرية في بيروت.. ما الجديد؟
بلاش تبوسني
increase حجم الخط decrease

طوال شهر أيار/مايو الجاري، تعرض سينما متروبوليس(الأشرفية - بيروت)أربعة أفلام مصرية حديثة: "بلاش تبوسني" لأحمد عامر، و"زهرة الصبّار" لهالة القوصي، و"علي معزة وإبراهيم" لشريف البنداري، و"صيف تجريبي"* لمحمود لطفي. أحمد عامر يستعيد القبلات من زمن ماض صار جميلاً بعد اختفاء كل ما يدلّ عليه الآن، وهالة القوصي تهرب ببطلتها إلى حياة موازية سعياً وراء اتزان ممكن، في حين يتابع شريف البنداري الحكاية الفانتازية لغريبين تجمعهما رحلة روحية لاكتشاف الذات بعد خرابها، بينما يختلق محمود لطفي رحلة داخل الأرشيف غير الرسمي للعثور على أول فيلم مصري مستقل ليقدّم تحيته خاصة إلى السينما المستقلة.


ما الذي يعنيه عرض أربعة أفلام مصرية حديثة في بيروت حالياً؟ احتفاء بالتجربة، أم تأشير إلى موجة سينمائية جديدة، أم تنفيذ لخطة برمجة مشتركة، أم إثبات حالة؟ الأصلح من محاولة إجابة السؤال السابق بيان ما يجمع تلك الأفلام الأربعة، وحدود تجديدها لإمكانيات التعبير البصري والقول السينمائي، وارتباط ظروف صناعتها براهن السينما المصرية وأزماتها المزمنة.

أولاً، يجمع بين الأفلام الأربعة كونها الباكورة الإخراجية لصانعيها في مجال الروائي الطويل، بما يعنيه ذلك من وقوعها بعضها في فخاخ الثرثرة والانعطاف في مسارات جانبية للحديث عن كل شيء، كعادة البدايات الشغوفة والممتلئة بشتى الرغبات والهواجس. لكن معظمها يبتعد عن الخطابات البلاغية في سبيل العثور على معادل بصري يتيح لها الاشتغال على موضوعات ذاتية بعيداً بمسافة واضحة عن سينما الالتزام الأيديولوجي والقضايا الكبرى، وبعيدة بمسافة أكبر من سخافات السينما المحلية السائدة حالياً.

ثانياً، تشكل الأفلام الأربعة انعكاساً متفاوتاً لبعض الواقع المصري، إنسانياً واجتماعياً، وتعكس اختبارات جمالية لمقاربة أحوال بلد مضطرب وأفراد قلقين. وهي إذ يجمعها نواقص درامية -ترتبط بضعف السيناريو غالباً- تشترك في انتمائها إلى سينما شبابية مصرية تميل للتعمّق في الذاتي والآني من دون إهمال أصداء المفاعيل السياسية والثقافية والاقتصادية، لتأتي وقائع البطل- الفرد حاملة معها بعض هموم جماعية يتشاركها العائشون تحت سماء واحدة بمشقات متشابهة.

ثالثاً، تنشغل الأفلام الأربعة بتقديم سردية مختلفة ضمن إطار تنقيبي عن أفراد رابضين في هوامش بيئتهم أو معلّقين بذاكرة مراوغة أو تائهين في فوضى واقعهم أو ساعين للتخلص من راهنهم. فالأبطال – الأفراد، على تفاوتهم، يختبرون مسارات رحيل وسفر وانتقال من حال إلى آخر، غير منتهين إلى إقامة آمنة في وضع أو حالة. والأفلام بدورها تسعى، في اختلاف درامي وجمالي وتطبيقي، لتوريط المتفرج في حكاياتها، عبر الاقتراب من تفاصيل ومتاهات وأوجاع وارتباكات وهواجس وأحلام ووساوس شخصياتها.

رابعاً، الأفلام الأربعة تشبه موجة السينما التجديدية في الثمانينيات وروادها، داود عبد السيد ومحمد خان وعاطف الطيب ورأفت الميهي وخيري بشارة، لناحية اعتبارها أفلام طريق بمعناها الواسع، تبحث شخوصها عن ذاتها التائهة في واقع خانق وتبحث في ماضيها عما لا تجده في حاضرها. في طريق البحث تأتي مفاجآت وتظهر طرقاً جانبية لتشكل فرصاً لتناول الآخر والمختلف وتجريب اقتراحات أخرى للعثور على حياة أجدر بالعيش. هي سينما تحررية من قيود كثيرة بأسماء مختلفة، تسعى للثورة على أوضاع قائمة ومتوارثة، تدعو لتغيير طرق تفكير وأساليب حياة، تقدّم نظرة متفهمة للعلاقات الشخصية بعيداً عن الأحكام الأخلاقية المسبقة. سينما ذاتية تسعى إلى إقامة علاقة حميمية مع مشاهدها، تعكس قضايا مجتمعية، بعضها حسّاس، انطلاقا من أزمة فردية، يظهر تقاطعها مع واقع الكثيرين بتطور الفيلم.

خامساً، تلتقى الأفلام في كيفية صناعتها، واشتراك صانعيها في اختبارهم مآزق مالية وصياغات إنتاجية تدفعهم لابتكار وسائل متنوعة (شركات أو جمعيات أو تعاونيات إنتاجية) أو السعي وراء المنح الأجنبية، لتمويل مشاريع مستقلة تماماً عن المنظومة الإنتاجية المعتادة. هذه الطريقة المعقدة لتأمين تكاليف الفيلم تؤثر بالتأكيد على تماسك النص السينمائي وأصالته (كما يظهر في "زهرة الصبار" و"على معزة وإبراهيم" على سبيل المثال).

وبالطبع لا تخلو الأفلام الأربعة من مشكلات بنيوية وجمالية تؤثر على مردود ينتظر أن يكون بحجم الطموح المعقود على كل من السينمائيين الأربعة القادمين من خلفيات مختلفة، لكن مع الالتفات إلى اختلافات المعالجة والمقاربة بينهم، يبقى تأكيد الأفلام نفسها على حيوية مائرة تستمر في اندفاعاتها بحثاً عن هواء جديد يخترق الحصار المفروض على السينما المصرية من أطراف عديدة، بعضها معروف وأهمها يتخفّى خلف أسماء وكيانات رسمية، لا همّ لها سوى القضاء على أي أمل ممكن لخروج فيلم مصري محترم.

ومن قبل كل ذلك، هناك سؤال الجمهور وفهم طبيعة حركته. من الصعب تحديد مكمن الخلل المتمثل بانفضاض الجمهور عن تجارب سينمائية تحاول احترام مشاهديها وتتوفر على شروط الفعل السينمائي وتسعى لرفد المشهد السينمائي البائس بمسار تجديدي وجمالي. وصعوبة البحث تأتي من حقيقة انجذاب هذا الجمهور لأعمال نيئة يصعب وصفها بالأفلام السينمائية. فما يحدث في مصر منذ سنوات هو تحول الأفلام التجارية –باستثناءات نادرة- إلى استهلاكية بحتة: استسهال في تنفيذ العمل، وانتفاء الحد الأدنى من متطلبات العمل السينمائي، مع ميل واضح للتسطيح والاستخفاف والاستسهال والارتكان إلى خلطة "سُبكية" كوميدية ساذجة لطبخ الفيلم وتحضيره للعرض في المواسم والأعياد لجمهور يسعى لنسيان همومه ومشاكله.

ينسحب هذا على مسألة التوزيع السينمائي وتضاؤل فرص وصول الأفلام المختلفة لصالات العرض الجماهيري، بحجة أنها ليست "خفيفة" كفاية لتكتسب جمهوراً. وبذلك تواجه كل محاولة للعمل خارج الإطار الإنتاجي السائد أكثر من مأزق، بداية من غياب منظومة إنتاجية متكاملة ومستمرة وآمنة، مروراً بندرة فرص التوزيع محلياً وغياب خطط التوزيع إقليمياً ودولياً، وصولاً إلى انحسار فرص تلاقي الفيلم مع متفرجه في عروض تتخلل مهرجانات نخبوية غالباً وعروض نادرة لهذا الفيلم أو ذاك في مدن عربية وغربية (مثلما هو الحال في عروض "متروبوليس" الحالية).


يقود ذلك إلى أزمة صناعة السينما في مصر بعد أن تخلت الحكومة عن دعمها، لتصبح بعبعاً يتجنبه المنتجون والسينمائيون الأجانب. والدعم الحكومي المقصود هنا لا يعني دعما مالياً، بل دعماً معنوياً يسمح للسينما وللسينمائيين بالتنفس والوجود. والمسألة بتفاصيلها الكاشفة المزعجة يمكن اختصارها كالتالي: هناك نشاط زائد لأجهزة الرقابة –الرسمية وغير الرسمية- تمنع الحديث عن مواضيع بعينها وتشترط الحصول على موافقات الجهات الأمنية إذا احتوى السيناريو على شخصية ضابط شرطة أو جيش. السينمائيون الشباب غير الأعضاء في نقابة المهن السينمائية، مثل مخرجي الأفلام الأربعة، يتعيّن عليهم دفع مبالغ مالية كبيرة للسماح لهم بتصوير مشاريعهم، كما إنه من غير المسموح الانضمام إلى جنة النقابة إلا لخريجي معاهد السينما أو ما يوازيها، بالمخالفة للدستور المصري. حتى وإن حصل على التصاريح اللازمة للتصوير، يظل نزول السينمائي إلى الشارع عملاً محفوفاً بالمخاطر، لأن بإمكان أي مخبر أو "مواطن شريف" التشكيك في ما يفعله ومن ثمّ ضربه ومصادرة كاميرته. شركات الإنتاج الصغيرة تدفع ضرائب مماثلة لما تدفعه الشركات الكبرى، ما يتسبب في مآزق مالية تدفعها للإغلاق. لا تجد الأفلام المستقلة مَن يشتريها غير التلفزيونات الخليجية، يدفعون فيها ملاليم لخلوها من النجوم، في وقت تشتري شاشات التلفزيون المصري، الرسمي والخاص، مسلسلات بالملايين كل عام.


وسط هذا المناخ الطارد والقاهر، لايزال هناك سينمائيون شباب ينتظرون فرصتهم لإنجاز مشاريعهم المؤجلة، ويبقى الاجتهاد الفردي سلاحاً أساسياً في مشوار صناعة سينما مختلفة تتحدى السائد والمعتاد وتعلن بوجودها، المتناثر هنا وهناك في أفلام يتشقلب أصحابها من أجل إكمالها، أن ثمة معركة منسية مع السلطة تبدأ، مثل كل المعارك الأخرى المعلّقة، من تحقيق عدالة اجتماعية وحد أدنى من الحريات في بلد منكوب بمسؤوليه ومسيّريه.


(*) يُعرض في حضور المخرج في 30 أيار/مايو الساعة الثامنة مساء.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها