الجمعة 2018/05/18

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

"عنتيبي" لخوسيه باديلا: الفيلم "المحايد" الذي يهمّش الفلسطينيين

الجمعة 2018/05/18
"عنتيبي" لخوسيه باديلا: الفيلم "المحايد" الذي يهمّش الفلسطينيين
فيلم عن روايتين، واحدة للإسرائيليين، وواحدة عن الخاطفَين الألمانيَين
increase حجم الخط decrease
قوبل الفيلم الأخير للمخرج البرازيلي، خوسيه باديلا، بحماس قليل، من النقاد والجمهور على السواء. وبحسب تقييم المشاهدين، فإن "عنتيبي"، الذي بدأ عرضه في الصالات البريطانية مطلع الأسبوع الماضي، يفتقر إلى التشويق والحيوية اللذين تمتعت بهما أعمال باديلا السابقة: مثل "أتوبيس 174"، و"العدو من الداخل"، وسلسلة "نتفليكس" التلفزيونية "ناركوس". ووصفت "الغارديان" الفيلم بالممل، واعتبرته "التايمز" تبديداً لقصة مشوقة، فيما ذهبت "التليغراف" إلى أن الفيلم كان "محايداً أكثر من اللازم"، وأرجعت "تايمز أوف إسرائيل" تقييمها المتواضع للفيلم إلى "الصوابية السياسية التي أفسدته"، ومن جهتها لخصت "هآرتس" دلالته السياسة بأنها "ستغضب رئيس الوزراء، نتنياهو، بالتأكيد".

سبقت الفيلم، ثلاث معالجات سنيمائية تناولت عملية "البرق" التي نفذتها القوات الخاصة الإسرائيلية خلال إنزال في مطار عنتيبي في أوغندا، العام 1976، لتحرير الرهائن الإسرائيليين في طائرة تابعة للخطوط الجوية الفرنسية. وبينما ركز الفيلمان الأول والثاني، الأميركيان من إنتاج 1976 و1977، وكذلك الفيلم الإسرائيلي 1977، على الجانب الإسرائيلي من الحدث، وحاول فيلم باديلا أن يقدم رواية متوازنة تسرد نسخة للوقائع من وجهة نظر الخاطفين، وهم خمسة شبان ينتمون إلى "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"، إلى جانب ألمانيَين اثنين تابعين من "الخلايا الثورية" اليسارية.

إلا أن محاولة التوازن تلك، ليست فقط ما صبغ الفيلم بقدر من الحساسية، فـ"عنتيبي" الذي تزامنت انطلاقته في الصالات، مع احتفالات إسرائيل بالذكرى السبعين لإنشائها ونقل السفارة الأميركية إلى القدس والمذبحة على حدود غزة، لا يخفي آنيته. فالأمر ليس مجرد رواية للماضي، تحتاج مراجعة. التنويهات في نهاية الفيلم تخبرنا بأن مقتل قائد العميلة، يوناثان نتنياهو - وهو القتيل الوحيد من القوات الإسرائيلية في العملية – كانت وراء دخول أخيه، بنيامين نتنياهو، الى السياسة. والانطباع الذي يتركه لنا باديلا، هو أن ما حدث في "عنتيبي" لم ينتهِ بتحرير معظم الرهائن ومقتل جميع الخاطفين وعشرات الجنود الأوغنديين، بل إنه مستمر إلى اليوم، وفيه ما يستدعي التمعن لفهم ما وصلت إليه الأمور.

يعارض الفيلم الرواية الإسرائيلية شبه الرسمية، التي تسبغ على يوناثان نتنياهو دوراً بطولياً ومركزياً في العملية. فباديلا، الذي يعتمد على مصادر تاريخية مدققة، يظهر يوناثان في دور ثانوي. فهو يُقتل في مرحلة مبكرة جداً من العملية، بل وفي لحظاتها الأولى. يثير "عنتيبي" الكثير من الشكوك حول رواية بنيامين نتنياهو عن أخيه، والتي طالما روجها بغية ترسيخ شرعية عملة السياسي، على مأساة بطولية وملحمة عائلية.

وبعيداً من الجدل حول الدقة التاريخية للأحداث، هل كان الفيلم حقاً "محايداً أكثر من اللازم"، أو على الأقل حاول تقديم رواية متوازنة للأحداث وخلفياتها السياسية؟

في التنويهات التي تظهر في الشاشة خلال الدقائق الأولى من الفيلم، نعرف أن الفلسطينيين الذين انخرطوا في عمليات ضد إسرائيل، أطلقوا على أنفسهم صفة "مناضلي التحرر الوطني"، فيما أطلقت عليهم إسرائيل توصيف "إرهابيين". هكذا، يضعنا صانعو الفيلم، منذ اللحظات الأولى، أمام روايتين متناقضتين تماماً، ويبدو أنهم يقفون على الحياد بخصوصهما، وأن الأمر في يدنا بالكامل لتحديد خيارنا بين الروايتين، أو الاعتراف بعجزنا أمامهما، فالأمور دائماً أعقد مما تبدو عليه من جانب واحد.

إلا أن محاولة باديلا للحياد، أو العرض المتوازن، سرعان ما تظهر ثغراتها الكثيرة. فأول ما يمكن أن نقرأه في الشاشة، هو إقرار بشرعية إسرائيل الأممية، "في العام 1947، اعترفت الأمم المتحدة بدولة إسرائيل"، ولاحقاً نقرأ أن الفلسطينيين "بدأوا بعدها بالقتال من أجل أرضهم، وتضامن معهم اليسار". يبدو تسلسل العبارات للوهلة الأولى، في ترتيبه المنطقي، لكن هذا ليس دقيقاً تماماً. فالاعتراف بشرعية إسرائيل، المختوم بشعار الأممية، يأتي أولاً كأمر مفروغ منه، وهو بداية الأحداث، فلا شيء قبله، أو على الأقل هو البداية "المناسبة". أما النضال الفلسطيني اللاحق، فهو، في الفيلم، ليس بمواجهة الطرد والتشريد والتهجير التي لا يأتي التنويه على ذكرها، بل يبدو نضالاً ضد إجحاف الشرعية الأممية، أو في أفضل الأحوال، يبدو صراعاً حدودياً على "الأرض".

حتى الإشارة إلى تضامن اليسار مع النضال الفلسطيني، تبدو مخادعة. فبالإضافة إلى الصورة غير الصحيحة على الإطلاق، والتي تظهر تمتع الفلسطينيين بدعم اليسار من دون إشارة تقول إن كان هناك من يدعم إسرائيل أم لا، فالحقيقة الأفدح التي تجاهلها الفيلم هي أن قطاعاً واسعاً من اليسار الأوروبي لعب دوراً جوهرياً في تأسيس إسرائيل، وهذا بالطبع غير الدعم اليمين أيضاً.

لكن، ربما لا ينبغي على الفيلم أن يكون وثيقة تاريخية، أو أن يقول كل شيء عن صراع طويل عمره أكثر من سبعة عقود. فباديلا يضعنا، في أحد المشاهد، أمام الدافع لاشتراك أحد الفلسطينيين في العملية. فإسرائيل قتلت أسرته كلها في لبنان، والمرارة التي يروي بها الرجل مأساته تبدو كافية لتعويض أخطاء التنويهات في بداية الفيلم. لا يذهب الفيلم أبعد من هذا، فأحداثه التي تبدأ لسبب ما، في مسرح في تل أبيب، حيث تقوم فرقة للرقص للحديث بالتدريب على أنغام أغنية عبرية، يظل معظمها يدور في إسرائيل. فصراع بين الحمائم والصقور في الحكومة الإسرائيلية، يمثله رابين، رئيس الوزراء حينها، وبيريز، وزير الدفاع، يسايره صِدام خفيف بين جندي الكوماندوس الإسرائيلي، وحبيبته عضوة فرقة الرقص التي تظهر في المقدمة.


يسبغ الفيلم هالة من القداسة على رابين. فهو كان يريد التفاوض مع الخاطفين دائماً، ويسقط عبارات نبوية بين الحين والآخر: "أعداؤنا هم جيراننا، وعلينا أن نتفاوض معهم في النهاية". بل وحتى عندما يضطر للموافقة على العملية العسكرية لتحرير الرهائن، يقول: "لكن يوماً ما علينا التفاوض". بالطبع، تكتمل أيقنة رابين، في نهاية الفيلم، بمنحه ختم الشهادة، إي بالإشارة إلى اغتياله. لكن، حتى جانب الصقور، الذي يمثله بيريز، لا يظهر أقل أخلاقية أو إخلاصاً، بل يثبت قوة منطقه في النهاية، وصوابه. أما التوتر بين الجندي وحبيبته، فتحسمه جملة واحدة منه: "أنا أحارب، كي تستطيعي أنت الرقص". ففي التحليل الأخير، يقاتل الفلسطينيون لأجل الأرض، أما الإسرائيليون فيحاربون من أجل الرقص الحديث والثقافة العليا، من أجل الحضارة نفسها.

تلقي الراقصة، في وجه حبيبها بسؤال، خارج السياق تماماً: "وماذا لو توقفت عن الرقص؟". يتركنا باديلا مع هذا السؤال اليائس بلا إجابة، وكأنه حافز للتأمل. لكن السؤال لا يحتاج جهداً ولا يستحق الالتفات بالأساس. فلماذا علينا أن نقبل بالافتراض السخيف أن القتال دائر حول رقصها أصلاً؟

هذا عما يجرى في إسرائيل. فماذا عن جانب الخاطفين؟
يفرد الفيلم مساحة معتبرة للخاطفين، بالفعل، لكن للأسف، للألمان منهم فقط. فبديلا لا يخفي تعاطفه مع المرأة والرجل الألمانيَين، ودوافعهما الثورية للمشاركة في عملية الخطف، ونزقهما الإيديولوجي، وترددهما، وتمزقهما بين مبادئهما المثالية وحقيقة أن عليهما قتل المدنيين العزل، ومخاوفهما وندمهما في النهاية. أما الشخصيات الفلسطينية فتبدو عابرة بالصدفة في المشهد، وشديدة السطحية. البُعد الوحيد لها هو دافع الانتقام لا أكثر، في مقابل الدوافع المبدئية والمثالية لرفيقيهما الألمانيَين. بل إن المشهد الوحيد الذي يظهر فيه الفلسطينيون بقليل من حس الدعابة، هو عندما يسخر أحدهما من مثالية رفيقهم الألماني، وكلامه عن "تحرير فلسطين". فالخاطف الفلسطيني يفتقر حتى للمثالية الساذجة، التي تُحسب لشريكه الألماني، وتخفف من جُرمه. الفلسطيني براغماتي تماماً، وبشكل منحط، حين يسخر من فكرة "تحرير فلسطين" نفسها، فما المبرر للتعاطف معه؟ ما يحركه، هنا، هو رغبة في الثأر فقط، بلا مبادئ، وبالطبع الانتقام عاطفة غير جديرة بالاحترام.

الفيلم إذاً، عن روايتين، واحدة للإسرائيليين، وواحدة عن الخاطفَين الألمانيَين. الفلسطينيون هنا فائض درامي وعبء مزعج، في الأفلام، كما في الحقيقة. الروايتان غربيتان، واحدة أكثر غربية، هي الإسرائيلية بالطبع. يتحدث الألمان خليطاً من الألمانية والإنكليزية، ويتحدث الفلسطينيون خليطاً من العربية والإنكليزية، فيما يتحدث الإسرائيليون الإنكليزية فقط، ولا كلمة واحدة بالعبرية. على المشاهد أن يتوحد مع الإسرائيلي بالطبع، فيما يبدو الخاطف الألماني أجنبياً إلى حد ما، أما الفلسطيني فبالكاد موجود.

في المشهد الأخير، تركز الكاميرا، بحسٍّ ملحمي وتراجيدي، على جثتي الخاطفَين الألمانيَين، وبعدها تنتقل للتركيز على جسد قائد العملية المقتول، يوناثان نتنياهو، على وقع الموسيقى الملحمية نفسها. أما الفلسطينيون القتلى، وعددهم خمسة، فكانوا أقل جدارة من أن تركز الكاميرا على جثثهم، أو حتى أن تمر عليهم سريعا، فلا تظهر جثة فلسطينية واحدة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها