الجمعة 2018/05/18

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"ذاكرة حقيبة" لعلاء حمامة: خلاصة الهولوكست السوري

الجمعة 2018/05/18
increase حجم الخط decrease
مثل كثير من السوريين، كان للفنان التشكيلي علاء حمامة حقيبة سفر جاهزة وراء الباب (باب المخيلة على الأقل). وكان يسأل، هو الذي يرى أن تجربة الرحيل والنزوح السوري الأقسى من بين ما مرّ، ماذا ستحمل في حقيبتك لو أنك اضطررت للرحيل عن بيتك؟ جاءته إجابات كثيرة: جلاءات الأولاد المدرسية، وصفات طبية، مفاتيح البيوت.



غير أنه هو نفسه بوغت بالسفر، لم يتح له أن يجهز حقيبته بالفعل، فراح يؤثّث حقيبة تشكيلية في مرسمه في فرانكفورت منذ أن وصل قبل حوالى العام.

النتيجة جاءت معرضاً في غاليري "أوروبيا" في باريس يحمل عنوان "ذاكرة حقيبة"، يضم عشر لوحات موضوعها عنصر وحيد هو الحقيبة، لكنه يستحضر في لوحته ذكريات بعيدة، وصوراً لأشخاص وأقارب وأماكن باتت جزءاً من لوحته. يقول: "اكتشفت أن للذاكرة الجمعية للأشخاص المحيطين بي والموجودين بداخلي الحق في أن يكونوا جزءاً من ذاكرتي، فباتت قصاصاتهم تفصيلاً تقنياً ملموساً في بنية اللوحة، أوظفها بصرياً لتقديم ذاكرة المهاجر أو اللاجئ كحالة تشكيلية بعيدة عن السرد".

بداية التجربة كانت تحت عنوان "لم شمل الذاكرة"، ومن أجلها راح الفنان يستنجد بالأصدقاء القدامى والجيران والمعارف الذين زوّدوه بصور قديمة، وقد جاء الختام بـ "ذاكرة حقيبة"، المعرض الذي يضم إلى جانب اللوحات عمل "فيديو آرت" وحيد لعلّه الأبرز والأجمل في التجربة.

الخيمة تتحول إلى كَفَن
الفيديو يصوّر التحوّلات التي تمرّ بها حقيبة، كما لو أنه يوثّق، وفي أقل من خمس دقائق، تاريخ الثورة والدم واللجوء في هذا البلد. تصبح الحقيبة شاشة عرض تبدأ من التظاهرات الأولى في سوريا، مروراً بالسجون، الموت والتعذيب، ثم تجربة اللجوء عبر البحر، وأسلاك الحدود الشائكة، وصولاً إلى قصف الآمنين بالسلاح الكيميائي، قصف المشافي، إلى أن تتحول الحقيبة إلى خيمة مرسوم عليها شعار الأمم المتحدة، ثم سرعان ما تتحول الخيمة إلى كفن، ثم قبر مرقم بالأحمر، فوقه حفنة تراب معشوشبة.



لكن جمال العمل/الفيديو ليس في هذا السرد ومضمونه، بل في جمال التشكيل البصري، واستعادة الرموز التي قدمت بأناقة وتكثيف من دون مشاهد مؤذية. فالفنان حرِص، كما قال في حديث لـ "المدن"، على أن لا يزعج المتلقي بمشاهد الدم، بل إنه يقول إن تلك العبارة المكررة في الإعلام "نعتذر عن عرض الفيلم بسبب قسوة المشاهد" كانت ملهمة له في عمله: "أردت أن ألخّص الثورة من دون أن أزعج المتلقي وأحمّله عبئاً نفسياً".



أرفق الفنان تلك الصور والتحولات في الفيديو بشريط صوتي مشغول هو الآخر، يحمل أصوات المتظاهرين في الساحات، ويستعيد عبارات مكثفة من خطابات شهيرة على مدار السنوات الفائتة، لبشار الأسد وأوباما وحسن نصر الله، إلى أصوات الغرقى في عرض البحر، والعالقين على الحدود، وصولاً إلى ذلك الصوت الأقسى، حيث سعال طفل يختنق بالكيميائي.

استخدم الفنان لعمله/الفيديو حقيبة قديمة، مغرقة في قدمها، ويبدو أنها جاءت عبر مصادفة ستضيف إلى العمل معنى مؤثراً، فهي لعائلة من أوروبا الشرقية، لعلها عبرَتْ، على ما يقول الفنان، الطريق نفسها التي عبرها اللاجئون السوريون في تغريبتهم المأسوية.

يقول حمامة: "قيمة الحقيبة جعلتني أستخدمها كما هي من دون تغيير، كذلك استعملت القناع الواقي من الغاز، بالإضافة إلى خوذة وقفازات تعود كلها إلى الحرب العالمية الثانية. هي أشياء حقيقية حصلت عليها من عائلات  ألمانية". 

لا يفوت الفنان علاء حمامة أن يربط بين اللجوء السوري ونظيره الفلسطيني، خصوصاً عند استخدامه لرمزية المفاتيح، تلك التي حملها السوريون رغم معرفتهم أن لا أبواب باقية ولا بيوت، كما يقول. ويضيف"الفارق فقط  في أن المفاتيح السرية حديثة في تكوينها".

أول ما خطر ببالي عند مشاهدة الفيديو، أن هذا العمل وحده يستطيع أن يكون متحفاً لـ"الهولكوست السوري" حيث بالإمكان العودة إليه للبحث عن رموز المأساة السورية كلها، رسائل وأصوات ومفاتيح، تواريخ وبشر وأمكنة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها