قضى آي ويوي سنوات يبحث ويتنقل من بلد لجوء الى بلد آخر، من دون أن يحصر اهتمامه هذا بإثنية أو هوية أو عرق. فزار أكثر من مخيم في اليونان، حيث شهد وصول النساء والأطفال إلى الشواطئ اليونانية. وتتبع خطاهم ليجد نفسه في مخيم أندوميني. كان آي ويوي يرصد كل شيء في مسارات عبور وتنقل اللاجئين. في 24 أيار/مايو2016، أخلت قوات مكافحة الشغب اليونانية مخيم أندوميني كلياً، ولم يبق فيه سوى بقايا من مقتنيات اللاجئين تنتظر أن تزيلها الجرافات: بقايا ثياب، قمصان متسخة، بناطيل وفساتين رثة، ثياب أطفال، أحذية أنهكتها مسيرات الهرب واللجوء، بطانيات... فجمع الفنان تلك المقتنيات ونقلها الى ورشته في برلين لتصبح المادة الأساسية لتجهيزه الفني، بعد غسلها وتجفيفها وكيّها وتصنيفها.
قُسّم تجهيز "بقايا الشتات" الى عناصر متعددة: بالإضافة الى آلاف القطع من الثياب والأحذية، أنتج آي ويوي، فيديو قصيراً يجذب المشاهد فور دخوله صالة العرض الرئيسة في محطة المطافىء القديمة في الدوحة. قبل الوصول الى شاشة الفيديو، يتعثر الزائر بإطارين مطاطيين قرب ست مزهريات خزفية مكدسة فوق بعضها البعض بشكل عمودي.
تحتل الألبسة، القسم الأكبر من فضاء التجهيز. كل قطعة موضوعة بتأنٍ، مع بطاقة خاصة بها، وفق تراصفٍ لوني متناسق. صفوف مذهلة من الثياب المرصوفة وفق تصنيفاتها الوظيفية والبصرية. في الممرات التي تفصل صفوف الثياب، يتعثر المشاهد بصرياً بزخم توثيقي هائل من عناوين التقارير الصحافية ذات الصلة بأزمة اللاجئين الدولية والتي جُمعت عبر "واتساب". تلك التقارير هي جزء من مشروع البوابة الإخبارية التي تضم ألفي مادة إخبارية، أرسلت في مجموعة "واتساب"، وتضمّ تغطيات صحافية يومية، وملاحظات شخصية، وصوراً عن الحرب والنزوح والتطورات الجارية في دول العبور واللجوء، وإستغرق جمعها حوالى ثمانية أشهر.
أما الجزء الأخير من التجهيز فهو مخصص للأحذية المرصوصة على الأرض، بدءاً من الأحذية الأصغر حجماً وصولاً الى أكبرها. أحبت صوفي التجهيز، لكنها في الوقت نفسه، تساءلت عن عملية غسل الثياب وتنظيفها وتكتلها بهذا الشكل. سمعت في مكان ما في العرض، لربما الفيديو، أن تلك العملية تعيد بعضاً من الكرامة... فهل تحقيق تنظيف الثياب يعيد للاجئين قدراً من الكرامة؟ أي قدر؟
سؤال يُطرح. قد لا تأتي الإجابات سريعاً... وعلى الأرجح لا إجابة واحدة، بل قراءات متعددة. قد تكون إحداها أن عملية غسل الثياب تعيد أصحابها الى زمن ما قبل النزوح واللجوء عبر استعارة الملبوس الذي يتقمص صاحبه وإعادته الى أبهى حلله. أعداد مهولة من الألبسة نُزعت عنها الأوساخ والوصمات التي علقت من فضاءات اللجوء، كل هذا التعرّق المضني الممزوج بملح البحر، كل تلك الدموع التي تشربتها... يقول آي ويوي إن أول ما لاحظه في إندوميني أثناء التصوير، هو محاولة "الناس تغيير ملابسهم التي ارتدوها في سوريا قبل انطلاقهم. كانت ثيابهم مبلّلة ومتسخة من الرحلة الشاقة عبر البحر والجبال والغابات. كان اللاجئون يغسلون ثيابهم يدوياً ويعلقونها على السياج الحدودي لتجف بما أن ذلك كان الخيار الوحيد لتنشيفها".
قراءة أخرى محتملة أيضاً هي النظر الى تلك الملبوسات كمادة مرتبطة بأصحابها وغير منفصلة عن سردياتهم، وبالتالي تشكل عملية الغسل انتزاع الصفة الشخصية عن هذه الملابس وبالتالي انتفاء السرد الذاتي وتحييده لتصبح تلك الثياب مجرد استخدام لا يذهب الى ما هو أبعد. تقترح تلك القراءة، المحافظة على الجانب التوثيقي لتلك الثياب، والحفاظ عليها في حالتها الأساسية واعتمادها كوثيقة تاريخية وفنية في آن. يفترض ذلك الحفاظ على رائحة هذه الملابس ودرجات إتساخها من دون تدخل من الفنان نفسه.
قراءتان من بين قراءات متعددة لها ما يبررها. على تماس من هاتين القراءتين، قد تكون مجدية أيضاً متابعة السياق الفني لأعمال أشهر فناني الصين، لا لحسم جدلية ما ورد أعلاه، بل لمحاولة فهم المدارات التي يبحث فيها، والأدوات التي يعتمدها، والرابط الذي يبنيه مع عمله الفني، وبالتالي العلاقة مع الجمهور والسلطة.
"حبوب دوار الشمس" هي إحدى أعماله المثيرة للإهتمام عبر لجوئه الى حرفيين بدل تصنيع تلك القطع في أي مصنع حديث، لدوار الشمس رمزية سياسية: بعد أن كانت تلك البذار جزءاً من ذاكرة جمعية طفولية حيث كان الأطفال يعرضون تلك الحبوب على بعضهم بعضاً في أيام العوز والجوع، جعلت البروباغندا الشيوعية ماو تسي تونغ رمزاً للشمس وصوّرت الشعب الصيني كما لو أن بذار دوار الشمس التي تستدير دائماً ناحية قائدها وتتبعه. عمل آخر شبيه من حيث الأسلوب والمقاربة لدوار الشمس وهو "نهر السلطعون" ويُعرف ب He Xei وهو لفظ متجانس مع كلمة أخرى هي الرقابة. مواجهة فنية سياسية آخرى يؤجهها آي ويوي مع السلطة مستحضراً ٣٠٠٠ قطعة من السلطعون المتمترسة ككتلة على الأرض والجاهزة لأن يداس عليها.
لا يبني آي ويوي، في "بقايا الشتات"، سردية مفردة لكل قطعة من قطع الثياب التي جمعها... يبني سردية عامة، حيث تموقُع عناصر التجهيز هو الذي يقود الى بناء تلك السردية المبنية على خطاب سياسي.
الفيديو في بداية العرض، إذ يتموضع على مسافتين، من الإطار المطاطي الذي يرتديه اللاجئون كسترة نجاة في عرض البحر، ومن الآنية الخزفية العمودية، لا يمهد فقط للدخول في فضاء الملابس والأحذية. فلكل عنصر من هذه العناصر دلالة ما. صمت هذا الفيديو، المصحوب بالموسيقي، نقل بشكل كبير معاناة فردية لوجوهٍ وأصوات علقت في الذاكرة. هنا يتمثل فائض من الإنفعالات أمام وجوه وأحداث صغيرة، تنقل الأوجاع، دون اللجوء الى الكلام. في سياق متصل، يرى المشاهد معلومات ترتسم مكتوبة في الشاشة، وتوثق للمجريات السياسية المحيطة بمخيم أندوميني. منذ اللحظة الأولى لزمن الدخول في فضاء هذا التجهيز، حرص آي ويوي أن يعرف المشاهد السياق السياسي لمادة عرضه: إغلاق مقدونيا حدودها مع اليونان في 20 آب/أغسطس 2015، ارتفاع عدد اللاجئين في مخيم أندوميني، إغلاق تام لحدود البلقان في 14 آذار/مارس 2016، منع تركيا في 20 آذار/مارس، اللاجئين من ركوب القوارب الى البحر الأبيض المتوسط، إثر اتفاقية وقعتها مقابل 6 ملايين يورو.. الخ. كل تلك المعلومات ترتسم على الحائط التعريفي للتجهيز، وتضاف اليها معلومات أخرى في الفيديو.
أمام شريط الفيديو المتكرر، والذي يمثل زمن استهلاك الصورة المتحركة، تتمثل الآنية العمودية الخزفية: مادة جامدة تحول هذا الإستهلاك الى أيقونة عمودية الطابع، تنقسم الى مراحل ست، فتنقل كل مرحلة، من خلال رسوم مستوحاة من معاناة اللاجئين، ست أفكار أساسية: الحرب، الخراب، الرحلة، عبور البحر، مخيمات اللجوء، المظاهرات.
امتلأت جدران القاعة صور السيلفي التي التقطها آي ويوي مع اللاجئين، تشكل الثياب الرثة التي كانت عرضة للتحول الى نفايات، المادة اليومية التي تتقمص تلك المعاناة. كما لو أن الثياب خرجت من أجساد أصحابها في الصور – التي اتفق أنهم لاجئون سوريون محددون في مخيم أندوميني - لتكون جاهزة لتقمّص لاجئين آخرين. هو إرتقاء بمعاناة قضايا اللجوء، يطاول مفهوماً كونياً، يعلو على كل المواقف السياسية والمواد الإخبارية التي وُضعت على أرضية القمصان والتي تستلب صفة الإنسانية عن الثياب وتحولها الى فعل تقمّص لا متناهٍ. مواد إخبارية، تعيد المشاهد إلى خصوصية السياق السوري ضمن بعض الأخبار الأخرى التي تطاول لاجئين آخرين حول العالم. ولعل أكثرها دلالة، خبر في صحيفة "نيويورك التايمز"، صدر في تشرين الثاني/نوفمبر1938 تحت عنوان "اليهود راكعون يرجون هولندا السماح لهم بالدخول".
في الجزء الأخير من المعرض، حيث ترتصف الأحذية وفق حجمها، يتلمس المشاهد الصفة الفردية التي انتفت في عملية غسل الثياب وكيّها. تلك الأحذية المستعملة ذات الطعجات، الكعوب التي حاف بعضها، هذا الحذاء ذو الضوء الخلفي الذي يومض في فيديو العرض... حافظت كلها على بعض من ذاكرة أصحابها وحيواتهم... كما لو أن فعل المشي إلى الأمام هو الخيار المتاح الوحيد للإستمرار.
هذه قراءةٌ ثالثة لـ"بقايا الشتات | Laundromat “ لا تنفي إحتمالات أخرى!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها