حسنًا فعل مركز "مولانا أزاد" الثقافي الهندي، التابع لسفارة الهند في القاهرة، بإتاحته مجموعة من لوحات طاغور النادرة في ذكرى ميلاده، جرى عرضها في متحف صديقه الشاعر أحمد شوقي في الجيزة. وهذه الأعمال الفنية تفتح الباب للإطلال على أعمال طاغور التشكيلية حول العالم، للغوص في محيط "الإيقاعات الملونة"، وفق عنوان المعرض القاهري.
"هذه الأرواح اليقظة، رفعت إلى الضوء أنظارها، الضوء المزيّن بالنجوم، واندهشت لهذا الكنز الذي عثرت عليه فجأة" (*). مثل إبداعات طاغور في الشعر والكتابة، تُضاء لوحاته بمصابيح الحرية، فالانفلات من القيود وإزاحة الأطر من سمات طاغور في سائر الآداب والفنون والمهارات التي أتقنها، كما أن "الحرية الداخلية" قوام فلسفته للكشف عن الجوهر الإنساني الخالد: "ثقيلة هي قيودي، والحرية كل مناي، وأشعر بخجل وأنا أحبو إليها".
قليلة هي اللوحات التي منحها طاغور عناوين، فالأحرى بالعمل التشكيلي أن يتحلل من ثقل التسمية ليحلق بأجنحة الخيال، فتتعدد دلالاته وعناوينه المقترحة بتعدد مُشاهديه من أصحاب الرؤى الخاصة، على اختلاف أمكنتهم وأزمنتهم.
نحو المجهول يبحر طاغور بألوانه وأحباره، فلا تتجلى البورتريهات والمشاهد الطبيعية في أعماله من منظور المرآة المستوية العاكسة، إنما هي ثيمات وموتيفات وتكوينات مركبة تتحاور فيها الانفعالات الجياشة مع الظلال والأضواء، وتختلط دقات القلب بأشعة الغسق، وتتداخل الملامح وتتقاطع مع توتراتها الغائصة تحت السطح.
يكتفي طاغور في لوحاته بالإشارة والترميز، فالرسام لا طاقة له بثرثرة الحكّاء وبيان الشاعر، إنما هو أقرب إلى الصمت، والتأمل، والقلق، وربما الإلغاز المثير، المفضي إلى مغامرة فنية لا إلى متاهة. هي دوامات الأحوال المزاجية المتباينة، للبشر وللطبيعة على السواء، يصورها الفنان المتحلي بالحنكة والعمق، والقدرة على التمييز والانتقاء، وقراءة تقلبات الحياة من حوله، من السِّلم إلى الحرب إلى السِّلم، ثم إلى الحرب مرة أخرى، فلا يصطاد غير اللحظات الثرية، بما فيها من حركية، ودراما، وتناقضات.
إن أديب المحبة والإخاء والوحدة الإنسانية والسلام، والمعلم الروحي الصوفي النزعة، هو أيضًا رسام التجارب اليومية النابضة خارج قشور البلاغيات، المنخرط في حرث الأرض بيديه ومشاركة العمّال في نحت الصخور، فلا روافد للفن من خارج المعايشة المباشرة والصدق التام، والتصالح مع الذات والآخر.
أفاد طاغور من زيارته لليابان، حيث تأثر بالفن الياباني القديم، وطور أداءه بالاطلاع على متاحف أوروبا وأميركا والانفتاح على تيارات الفن المعاصر، حتى كانت ثمرة جهوده التشكيلية معرضه الشخصي الأول في باريس في العام 1930، وسبقته إرهاصات ومحاولات أسفرت عن عدد كبير من اللوحات والاسكتشات بالأحبار والألوان المائية على الورق.
عن الروح يفتش طاغور دائمًا، عن القيم الكامنة وراء الشكل، فهكذا يكتشف المعاني الإنسانية المتوالدة خلف بلّور البورتريه الشفيف، وقد شكل الرسم نقلة في مسيرة طاغور، ليس فقط كمبدع، إنما كإنسان: "مع الرسم، لاحظت تغيرًا كبيرًا في نفسي، صرتُ أكتشف الأشجار في حضورها البصري، وأرى الأغصان والأوراق من جديد، كأنني لم أرها مطلقًا من قبل. هي ثروات بصرية هائلة كامنة تحيط بالإنسان".
يحتفي طاغور، كما في البورتريه الذي رسمه لذاته في 1935 على سبيل المثال، بالأثر الباقي للون، لا باللون ذاته كغاية، وتلك هي الفلسفة ذاتها التي يعتمدها في الكتابة، إذ يؤمن بأن الكلمات تفيء إلى الصمت، لكن موسيقاها تظل ممتدة، ويبقى صداها موصولًا بالسمع. وفي رؤيته للطبيعة يسلك طاغور المذهب نفسه: "إن المطر ما يزال يهمس، وأوراق الأغصان ما تني ترتعش حبًّا حتى الآن في ذاكرتي".
ومثلما ينبني الوجود على الحركة والدائرية، تأتي أعمال كثيرة لطاغور حاملة هذا المفهوم، خصوصًا حين تصير الأنوثة والطبيعة وجهين لعملة واحدة، فتتجلى المرأة الراقصة متعرية من ملامحها الحادة، فهي الطيف الأثيري المتحرك بخفة، والهدية النورانية الآتية لتوها من قوس قزح.
وبالحبر الملون، والتلاعب بالأضواء والظلال، يقدم طاغور نَحْلته الروحية، مجسدة ذلك الصراع الأبدي بين الكتلة والطاقة، في عالم صار يُعلي شأن المادة على حساب المحسوسات، وانزلقت فيه قدما الإنسانية إلى هوة خطيرة صنعتها أسلحة الدمار والبارود.
ويأتي شموخ الشكل في بعض لوحات طاغور معبرًا عن القوة الروحية التي لا تزال تمنح هذا الشكل وجوده وحضوره وعلياءه، ومن هذه النظرة أيضًا ينطلق النور ليكون هو صاحب الكلمة العليا في التكوين الذي تتداخل فيه البورتريهات وتتشابك ملامحها من غير فواصل. وتعلن الوجوه الأنثوية صرخات ميلاد إيحائية، من غير صوت.
رابندراناث طاغور، من أجل إبداعاته استعار ذات يوم قيثار الصباح، ومن ألوانه صارت الطبيعة تقتبس فصول العام الأربعة.
(*) "أَعِرني قيثارتك أيها الصباح"، قصيدة لطاغور، ترجمة: حسونة المصباحي.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها