لم تكن أغاني تلك الفترة، لبنانية بالمعنى الذي اكتسبته الكلمة لاحقاً، بل أقرب إلى خليط شرق أوسطي شعبي، يحاول أحياناً أن يصبح مصرياً، وأحياناً أخرى، غربياً ولبنانياً في آن. المشكلة لم تكن في ضعف المواهب أو افتقار المجال الموسيقي اللبناني لقاعدة ابداعية، بل في عدم نضوج الهوية اللبنانية عند الجميع، وافتقارها لوسائل ترفيه جماهيرية منافسة لتلك المصرية.
يومها كانت المنصة الوحيدة للبنانيين بالإضافة للإسطوانات، هي الملاهي والصالات التي تتعاقد مع فنانين لمدة معينة، ويمكن أن تكون في سوريا أو لبنان اللذين اعتبرا لفترة طويلة سوقاً واحداً. أما الأغنية المصرية، فقد اعتمدت في انتشارها في المنطقة بشكل كبير، على السينما الغنائية التي أصبحت، منذ أواخر العشرينات، جزءاً ثابتاً من المشهد المديني البيروتي، كما اعتمدت على البث الإذاعي الذي لم يصل إلى لبنان حتى العام 1938 مع تأسيس محطة الإذاعة اللبنانية التي اكتسبت زخماً فعلياً بعد انتقالها من سلطة الإنتداب إلى الدولة اللبنانية في العام 1946، أي بعد أكثر من عقد على ظهور البث الإذاعي في مصر.
التقدم اللبناني الوحيد كان في مجال صناعة الإسطوانات، الذي صدّره لاحقاً إلى مصر، لكن تبقى الإسطوانات - لنخبويتها - محدودة التأثير، مقارنة مع الإذاعة التي تعتبر وسيلة جماهيرية بإمكانها تغيير الرأي العام، وتكوين ذوق موسيقي جديد، يتقبل أنماطاً مختلفة عن السائد، كما يمكن من خلالها ترجمة الأفكار الجديدة التي تربط الغناء والموسيقى بالهوية اللبنانية الصاعدة حديثاً. وقد أثبتت الإذاعة ذلك خلال الأربعينات والخمسينات، مع جذبها أبرز الأسماء اللبنانية، وتلازم مصيرها مع تأسيس الأغنية اللبنانية.
يمكن اعتبار فيلمون وهبي أحد الأسماء الأولى التي مثلت الطموح اللبناني في تكوين أغنية مستقلة منافسة للأغنية المصرية، تحديداً بسبب قدرته على التركيز على تطوير الأغنية الشعبية اللبنانية والبدوية، بالإضافة إلى تقديمه أعمالاً في السينما المصرية والإذاعة المصرية، ما يمثل خرقاً للهيمنة المعتادة. وبحسب كتاب "نجمات الغناء في الأربعينات اللبنانية"، كتبت مجلة "الموعد" العام 1953، خبراً يوثق هذا النجاح: "سجلت الدوائر الفنية والإذاعية للملحن اللبناني الموهوب الأستاذ فيلمون وهبي تفوقاً ممتازاً في تلحين الألوان اللبنانية الحديثة... حيث اكتسح بتلك الألوان سوق الأسطوانات والأفلام في مصر، وكان الفنان اللبناني الوحيد الذي سجل مجموعة من أغانيه وألحانه للإذاعة المصرية".
آنذاك، اعتُبرت الصبغة الشعبية لأغاني وهبي تكريساً للبنانيتها (كما أغاني الملحن عبد الغني الشيخ صاحب "يا أم العباية")، واعتبر تلحين نقولا المني (أحد رموز الأغنية اللبنانية الأوائل، وصاحب "أم المناديلي"، "يا ويل حالي"، و"يا هويدلك") لأنماط الزجل في الثلاثينات، فعلاً ثورياً في الموسيقى اللبنانية، سيكتسب قيمته الفعلية لاحقاً. يقول المني في مجلة "الإذاعة": "عندما قمت بتلحين الزجل اللبناني لأول مرة، شعرت بشيء من خيبة الأمل لأن أهل الفن استقبلوا هذا النوع من التلحين بعدم اكتراث واستخفاف، ومع ذلك صممت على مضاعفة الجهود... وبعد مضي فترة من الزمن أخذت الجماهير تتذوق هذا اللون الجديد من الزجل اللبناني الملحن، ثم نشط فريق من الزجالين لنَظم الزجل الغنائي، كما نشط بعض الملحنين لإلباس هذا الزجل ألحاناً مختلفة ذات طابع خاص".
من ناحية أخرى عمل عدد من الملحنين مع الإذاعة اللبنانية، من أجل تكوين أغنية لبنانية أرقى، بما أن الذين احتلوا الواجهة قدموا أغاني شعبية بسيطة نسبياً، وهم في غالبيتهم غير محترفين موسيقياً ولا يجيدون قراءة النوتة، وهو ما ينطبق على نقولا المني وفيلمون وهبي وسامي الصيداوي صاحب "يا جارحة قلبي"، الذي كان، وفق مجلة "الإذاعة" يعمل لحّاماً إلى جانب التلحين والغناء. ومن الطامحين إلى تحديث الأغنية اللبنانية، الملحن خالد أبو النصر الذي ارتبط اسمه لفترة طويلة بالمغنية زكية حمدان.
يقول أبو النصر (صاحب "سليمى"، "تانغو الأمل" و"خلقت جميلة") في مقال في مجلة "الإذاعة"، أنه بعد فترة تسلّمه إدارة الفرقة الموسيقية في المحطة (خلال الجزء الثاني من الأربعينات)، تمكن من تطوير طريقة العمل، من خلال إضافة أعضاء إلى الفرقة يجيدون الأنماط الغربية والشرقية، ويقرأون النوتة، مؤكداً بأنه يعمل من أجل تحقيق بعض الأهداف في الإذاعة، منها الغناء بالعربية الفصحى، إدخال الهارموني، اختصار الأغاني وعدم التكرار، ووضع أغنية عربية راقصة "يرقص عليها المجتمع العربي، من دون اللجوء إلى الإسطوانات الغربية".
طبعاً طموحات أبو النصر لم تتحقق كلها، لكنه شكّل أحد تيارات الأغنية اللبنانية في تلك الفترة، ومهد الطريق لتطوير عمل الإذاعة اللبنانية، على يد حليم الرومي المتأثر بعبد الوهاب وسيد درويش، والذي سيواكب عصر الإذاعة الذهبي في الخمسينات، مساهماً في ظهور فيروز وآخرين.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها