السبت 2018/05/12

آخر تحديث: 13:10 (بيروت)

نقاش حول سعدالله ونوس: أسئلة ظالمة

السبت 2018/05/12
نقاش حول سعدالله ونوس: أسئلة ظالمة
قد لا تصل أعماله إلى مستوى مسرحيات عالمية.. لكنها لا يمكن أن تصنف مُجامِلة للنظام.
increase حجم الخط decrease
"هل كان سعدالله ونوس صنيعة نظام الأسد؟". ينطوي هذا العنوان، ضمن نقاشات لأعمال سعد الله ونوس في الذكرى الـ21 لرحيله، على لعبة خطرة ومؤذية، على نحو ما نرى في استطلاعات الرأي المستعجلة التي تحشر الجمهور في خيارين. فالسؤال منتصر بكل الأحوال، إذ مهما بلغت ضآلة نسبة الجواب بالإيجاب، سيفوز السؤال لمجرد أنه استطاع أن يكسب الحضور ومشروعية الطرح، فيما هو سؤال مغلوط وغير منصف بالأساس. هذا عدا عن أنه ليس سؤالاً بقدر ما هو إجابة، كما تؤكد الحيثيات التي تساق في محاولة إثبات أن ونوس كان بالفعل صنيعة نظام الأسد. 


إنه نوع من الإجابة على سؤال مكرر -ولا يبدو ضرورياً- طرح بسبب الثورة السورية والتخندق الذي شهدته السنوات السبع الماضية بين مؤيد أو شبيح أو رماديّ. استُهلكت، في انتظار نهاية الحرب، كل الألعاب الفكرية والنظرية، فكان لا بدّ -على ما يبدو- من العودة إلى الماضي لاختبار مواقف الماضين مما يعصف ببلادهم. هكذا طرحت مئات الافتراضات، ماذا لو كان سعدالله ونوس حياً، ممدوح عدوان، عمر أميرالاي، نزار قباني، إدوارد سعيد، محمود درويش،.. كأن السوريين بحاجة إلى مزيد من نقاط الاختلاف، إلى مزيد من المتاريس! أو كأن ليس لديهم من المعضلات الراهنة ما يكفي.

يأخذ صاحب العنوان-المقال (الكاتب السوري خلف علي الخلف- في مقاله المنشور في موقع إيلاف الالكتروني)، على ونوس، عمله في بعض مؤسسات وزارة الثقافة، ومن بينها عمله في مجلة "المعرفة"، ورئاسة تحرير مجلة الأطفال "أسامة"، ثم إدارته "المسرح التجريبي" في وزارة الثقافة، ويعتبر أنهم "أسسوا أو سهلوا له مهرجان دمشق المسرحي"، ما أتاح له علاقات مع فرق مسرحية ونقاد مسرح، ما يعني بالتالي تعبيد الطريق أمام ونوس للوصول إلى العالم.

لكن سعدالله ونوس لم يعمل في مواقع تعتبر غرفاً خلفية لأيديولوجيا النظام، كما هو حال علي عقلة عرسان في "اتحاد الكتاب العرب"، أو في مواقع وزارة الإعلام. كانت وزارة الثقافة تعتبر متنفساً لمثقفين لا يحظون بالرضا الكافي، برعاية الوزيرة التاريخية (نظراً لبقائها زمناً طويلاً على رأس الوزارة) نجاح العطار، ومن بينهم الراحل أنطون مقدسي، ولاحقاً محمد كامل الخطيب وسواهما العشرات من المثقفين. وحتى لو كان ذلك مجرد دور ممنوح لوزارة الثقافة، فلقد كان الأمر جزءاً من وهم عاشه المثقفون والسوريون عموماً.

إلى جانب ذلك يتحدث المقال عن "جسر سري" يجمع النظام السوري ومعارضيه من اليساريين، وهو الانتماء إلى "طائفة النظام" (ويبدو أن المسألة برمتها هنا، في محاولة تفسير ونوس بالنظر لانتمائه الطائفي)، معتبراً أن هذا الخيط هو ما دفع بأدونيس إلى تبني ونشر نص ونوس المسرحي "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" في مجلته "مواقف". يجري ربط تلك المسرحية مع صعود حافظ الأسد وسعدالله ونوس معاً، بعد هزيمة العام 1967، عندما كان الأسد وزيراً للدفاع، كما يجري اعتبار المسرحية على أنها تأتي في سياق الترويج والتبرير لخطاب النظام.

مسرحيات ونوس متفاوتة المستوى، وهي ليست أدبية بأي حال. فالرجل جهِدَ قدر الإمكان أن يكتب للمسرح، للخشبة لا للقراءة، لكن مسرحياته لا يمكن اعتبارها مسرح معركة، على غرار ذلك الأدب الذي همّه أن يحفّز الناس للحرب، ويستنهض فيهم الهمة والعزيمة. ليست بوقاً للنفير العام. وعلى العكس، هي مسرحيات تسائل الواقع، وتفكك السلطة، بجميع أشكالها، وتنتقد الاستبداد بعمق وأصالة.

سنختلف قليلاً أو كثيراً حول أعماله، وقد نرى أنها لا تصل إلى مستوى أعمال مسرحية عالمية. يمكن البحث في مئة إشكالية، من قبيل حدود الاستفادة من التراث، واستنساخ أساليب فرجوية عالمية، أو كيفية وحدود اقتباس نصوص عالمية… لكن لا يمكن أن يصنف مسرح ونوس على أنه مجامل للنظام الممانع، أو أن يجري تصويره على أنه صعد مع صعود النظام، كما لو أنه استفاد من صعود هذا الأخير. ولو سقنا هنا مسرحيته "الاغتصاب" مثالاً، فليس لأنها تقدم حواراً نادراً بين مثقف إسرائيلي وآخر عربي. فالخطورة فيها هي في كونها تضع الجلاد الإسرائيلي في المكانة نفسها، وعلى التوازي من الجلاد العربي. وربما هذا ما جعل تلك المسرحية ممنوعة من العرض على خشبات المسارح السورية حتى الساعة (سبق أن قدمت بشكل غير رسمي بإخراج العراقي جواد الأسدي في شقة تعود لدائرة الثقافة الفلسطينية في دمشق).

في مقالته "تطويع المخيلة الجمعيّة للسوريين"، يشير الكاتب حازم صاغية، إلى الكيفية التي استثمر بها نظام الأسد أسماء لامعة في تطويع مخيلة السوريين، مثل سعيد عقل والرحابنة ونزار قباني بخصوص التغني بالعروبة والمجد الذي لم يغب و"شام ذا السيف"، وكل ما يسميه الدجل الإيديولوجي الذي يصل إلى الاستعانة بأدبيات القضية الفلسطينية، منذ ظاهرة شعراء الأرض المحتلة وحتى محمود درويش بصورته الأخيرة كأحد أبرز نجوم الشعر العربي. إنها "الاستعاضة بالقول العاطفي والوجداني، فضلاً عن الحماسي، عن الانخراط الفعلي في الصراع مع إسرائيل"، كما يقول صاغية. لكن مع كل ما قاله صاغية، لم يشر مرة إلى أن النظام هو من صنع هؤلاء، بل إنه حاول استثمارهم.

ليس في إمكان النظام أن يصنع قامة بحجم سعدالله ونوس. من عادته أن يحاول الاستثمار في الأمور المصنعة الجاهزة سلفاً. ومع ونوس قد يكون حاول ذلك أيضاً، بعدما أصبح اسمه مكرساً ولامعاً إلى هذا الحد، فقط للقول إن هذا الكاتب الفذ "من عندنا"، من دون أن يظهر أن النظام عمد إلى تكريس ونشر وتقديم أعماله المسرحية.

لن تجد في أعمال ونوس هذا الطرب بالأمجاد، الأمر الذي دأبت عليه ثقافة "البعث"، ولا ذلك التغني بعرائش الياسمين الدمشقي، التغني الذي يحجب ويموّه عذابات السوريين.

ونوس صاحب محاولات أصيلة في استنبات مسرح عربي، إن لم يكن في نصوصه المسرحية ففي تنظيره للمسرح، وفي مشاريع عملية مثل "المسرح التجريبي". يفهم المسرح على أنه تكريس للديموقراطية والحوار، على أنه طريق للتغيير. الأمر الذي لا يلائم مزاج أي نظام مستبد.

لقد أخفق سعد الله ونوس كما هو واضح. لقد أسيء فهمه إلى الحد الذي اعتبر معه صنيعة نظام متوحش.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها