الخميس 2018/04/05

آخر تحديث: 13:28 (بيروت)

مواسم بيروت

الخميس 2018/04/05
مواسم بيروت
increase حجم الخط decrease
بيروت مواسم. وفي كل موسم، تقترح عليك المدينة المجبولة بماء الورد والنار، زاوية جديدة لجلسة شهيرة بين العشاق: "تعا نحكي بعلاقتنا". أنت القاطن فيها، أو خارجها. المنتمي إلى نفوسها، أو القائل بمسقط آخر لرأسك اللبناني. بيروت تنفث الآن عبق الربيع والزهور المتفتحة على ضفاف شوارعها بقوة الدفع الذاتي. والموسم محمّل بمواسم فرعية. ذكرى الحرب الملول، والانتخابات النيابية التي عجّل الله فَرَجها أخيراً بعد غَيبة موسمين.. وفاكهة الشتاء والصيف.


في ذكرى الحرب، تحتفل بيروت. تسمح للناجين بتذكّر المخطوفين والمفقودين، ولا بأس بمراجعة في السياسة والثقافة، بل لا ضير في رجم "أمراء الحرب". لكنك إن سمّيتَ، بجدّية، أميراً واحداً، أو أي من الإمارات الآفلة الحيّة، فستروعك بالقانون واللاقانون. ستجرجرك في مكاتبها الأمنية ومحاكمها المعقودة على حق وباطل، حتى تتمنى الرحيل، أو يتمنى عليك المفجوعون الأبديون أن تصمت كي لا تقوض آخر فُرصهم في معرفة مصائر أحبائهم العالقة في أروقة القصور. ويبقى ملصق "تنذكر حتى ما تنعاد".

وفي موسم الانتخابات والصور والدعايات، ستتذكر فضل المدينة في تعليمك التفكير في السياسة، والنقد والديموقراطية، فقط كي تسلبك هذا كله. تدرّسك الشأن العام، لتكفر به. مزاجها مديني، ترتيبها ريفي. ثقافة المقهى والمخيم والمول والمزرعة، متداخلة أكثر منها متوازية.

المرشحة ميشال جبران تويني، وريثة شقيقتها بعد والدها، تغرّد باقتراح بلديتين لبيروت، واحدة للدائرة الأولى، وأخرى للدائرة الثانية، "لتنال الأشرفية والصيفي والمدور اهتماماً أكبر". وما لك إلا أن تغرّد بدورك، وتضحك وتضحك وتضحك، وتقنط من رحمة الهزل. ثم يُعاجلك "حزب الله" بحملة #هيك_نازل_انتخب: أي بلائحة "الأمل والوفاء" في يد، وفي اليد الثانية صورة شهيد من شهداء بعلبك-الهرمل. هكذا يزهر موسم الانتخابات بعد قطاف الحرب. ببيروتين شرقية وغربية، وبأمواتٍ ناخبين رغماً عنك وعن كل مَن لم يُستشَر قبل سقوطهم في نسل حروب مخصخصة. والعونيّ والحريريّ والجنبلاطيّ... تفقيس اليوم لأزمات الدهر.

وأنا امرأة. في بيروت، أرتدي ما أريد، أقول وأعمل وأدرس ما أريد. أسهر وأرقص وأعشق، وربما أتزوج من أريد، وبالعَقد الذي أختار. لكن حريتي هذه هي بالضبط قَيدي. جنسيتي اللبنانية ليست ملكي، فالإنسان لا يعطي ما لا يملك، حتى لأولاده. و"أحوالي الشخصية" ليست شخصية، ولا أمل، حتى ليعقوب، في مصارعة الآلهة الـ18. فإما أن أكون ضمن الحظيرة، أو لا أكون. هكذا، أنا "حرّة" في خياراتي وقراراتي.

بيروت تعلّمك. تأخذك من يدك وتفتح عينيك، ثم تُعمل فيك فؤوسها ومخارزها.

وإن قدتَ سيارة في بيروت، قُدتَها في أي مكان في العالم. تجعلك ذئباً محترفاً خلف مِقوَد، وإلا نهشتك ذئاب الأوتوسترادات والزواريب ذات الاتجاهين أو أكثر.

وتربّي بيروت، في لاوَعيِك، حنواً ما على البذلة المرقطة. ذلك أن في صدرك، تحت أنقاض المليشيات وزعران الأحزاب، اشتهاء دفين لأي شيء من رائحة الدولة والانتظام. ثم لا تلبث أن تعي الخديعة، وبيروت نفسها تكشفها لك.

في بيروت، في بعض منها، تفرح بلاطائفيتك. قد تجد أشباهك، إن أردتهم. ترفع أنخاب قناعاتك، وتتحدث بها في ندوات ومقاهٍ ومَسارح... إلى أن تحكم محكمة عسكرية، أو تُخرج الرقابة الأمنية كمّامة "النعرات". لك، في بيروت، أن تريد، لكنك بلا إرادة. لك أن تتنفس، لكنك ستشهق النفايات مع الهواء.

لك، في بيروت، أن تُعبِّر. قُل كل شيء، وأي شيء. أرسُم على الجدران. نظِّم اعتصاماً، إمشِ في تظاهرة، غنِّ، أُكتُب. المجال مفتوح، في الشارع والجامعة ومع الجمعية. في الإعلام والإعلان، أقل مما توجب المسؤولية أحياناً، وأكثر مما تحتمل السلطة أحياناً أخرى. ومع ذلك، فالسقف العالي نعمة لا يحظى بها الكثير من جيراننا، وها أنت تطبع القُبَل على كفّك، وجهاً وبطناً، شاكراً حامداً. إن تمتعتَ بالكفاءة، علَّمتكَ بيروت الصحافة، مهنة وفناً، بل أسلوب حياة شغوف. تُحبُّك شوارعها حين تجوبها بكاميرا أو دفتر، ثم تدرّبك على إظهار البطاقة الصحافية المناسبة في المنطقة المناسبة. وتغفر لها، وتظل تحب اشتغالك بها واشتغالها بك. وتعود لتعلّمك مصطلح "الصحافي المخبر"، فتفهم صحافة الطوائف، وصحافة الزعماء. ومعجزة راتب محدود يشتري شقة المليون، لا تعود عجيبة. ورغم كل شيء، تحتفي يومياً بقدرتك على شجب السلاح غير الشرعي، والتصويب على السلطة. فبيروت ترخي الحبل. ترخيه وتمدّه حتى يطاوعها لفّه على عمود الرأي.. فهناك تُعدِم الفِعل. الإدلاء بالرأي هو، غالباً، خط النهاية.

الفنون، الكتب، الموسيقى، الأفلام... بيروت لها. تتسع للصاعد والهابط، للكيتش والتجريبي والكلاسيكي والمجنون، للشرقي والغربي والهجين. وهنا، لا يُقال "لكن".

بيروت أيضاً واحات. بالأحرى، غيتوهات. أنت والحبيب، على هواك. أنت وأولادك، على طريقتك. أنت والأصدقاء، على مزاجك. وحتى أنت وحدك، وحتى أنتِ وحدِك. لكنها تجيد تذكيرك بحدود كل واحة، بأقسى الطُّرُق وألطفها. المهم أن تدرك الحدّ. فمحاولة تجاوزه إلى العالم اللبناني المحيط، قد تأتيها على مسؤوليتك: خطر "الاغتيال"، تقول اليافطة، وأحياناً "الانتحار". لا فرق بعد الحدّ، ولا مغيث.

بيروت مواسم ولائم ومآتم. تغازلها، تسبّها، تعانقها، تغادرها، تشكرها وتصفعها... وستظل تدعوها إلى فنجان قهوة لـ"نحكي بعلاقتنا"، فهذه الجلسة موسمها دائم. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها