الإثنين 2018/04/30

آخر تحديث: 12:40 (بيروت)

هل انتصر هتلر على السوريالية المصرية؟

الإثنين 2018/04/30
هل انتصر هتلر على السوريالية المصرية؟
رسموا أجسادًا مشوهة ومقطعة لتعكس الظلم الاقتصادي المروع
increase حجم الخط decrease
في يوليو/تموز 1937، افتتح معرض «Entartete Kunst» (الفن المنحط)، في معهد علم الآثار في ميونيخ -المكان الذي عادة ما تعرض فيه مجسمات لأشخاص أو مقتنيات من عصور بائدة- وضم أكثر من سبعمئة لوحة ومطبوعة ومنحوتة حديثة، عرضتهم وزارة التنوير العام والدعاية النازية، باعتبارها نماذج لغرابة الأطوار والأفكار الخطيرة.

كانت تلك الأعمال لفنانين مثل أرنست لودفيغ، وشاغال، ورؤول هوسمان، وماكس بيكمان، وغيرهم، وصمم المنظمون المعرض بحيث يبرز الروابط ما بين الحداثة والأمراض النفسية والنقص البيولوجي، وإمعانا في تأكيد الرسالة، التي مفادها أن اللوحات والمنحوتات والكتب المنتجة من قبل التعبيريين والتكعيبيين والدادئيين، ليست إلا شخبطة مريضة وتلطيخًا يقوم به أشخاص أدنى في المستوى البشري. عينت الوزارة بعض مدرسي الفنون تحت تصرف الزوار، لشرح تلك الأعمال من وجهة نظر العقيدة النازية، بالإضافة إلى زرع ممثلين بين حشود الزوار ليلعبوا دور مواطنين عاديين يثور سخطهم بشكل مفاجئ لدى مشاهدتهم أعمال أولئك «الخونة» المسيئة للأخلاق ومكانة الطبقة البرجوازية الألمانية المحترمة. وخلال أربع سنوات زار هذا المعرض ثلاث عشر مدينة ألمانية ونمساوية، وجذب ما يناهز ثلاثة ملايين وربع زائر.


وكرد فعل على ذلك المعرض، تأسست في مصر جماعة «الفن والحرية»، وأصدرت بيانها الأشهر «يحيا الفن المنحط»، لكن المثير للدهشة أنه ومنذ إطلاق الجماعة في ديسمبر من العام 1938 وحتى الآن، والفن الطليعي في مصر يواجه داخليًا بالأدوات ذاتها التي استخدمها هتلر تجاه الفنانين.

فالمعرض النازي الذي سفه من أعمال فناني الحداثة، عمد إلى ترسيخ ثلاثة مفاهيم رئيسة: الفن المنحط، والفن الرفيع، والفنانون المنحطون. فالأول لا يبدو إلا صرعة تقليد، تتبنى -في الأغلب- قيمًا دخيلة تنافى القيم المثلى للمجتمع، لذلك يتجاوزه الزمن ولا يصلح إلا للعرض في المتاحف الأثرية كشاهد على انقراضه، وعكسه بالضبط هو الفن الرفيع، فأما الفنانون المنحطون الذين يمارسون ذلك النوع الأول من الفن، فليسوا غير طبقة أدنى بشريًا لأنهم إما خونة أو منحرفون أو مختلون عقليًا.

وإلى جانب أسئلة هامة، يثيرها كتالوغ معرض «جماعة الفن والحرية: الانشقاق، الحرب، والسوريالية في مصر (1938-1948)»*-الذي طُرحت نسخته العربية في القاهرة بداية أبريل- حول تاريخ الجماعة السوريالية المصرية، تبرز تلك المفاهيم الثلاثة كمحددات تشكل آلية الأنظمة المتعاقبة في مواجهة الفن الذي يستهدف خلخلة القيم السائدة، وهو أمر يسهل إدراكه، لكن المدهش هو ما يعكسه الرصد الذي قام به سام بردويل ودون لاكوس ومارك كوبر، خلال ثلاثة أبحاث تضمنها الكتالوغ، من الكيفية التي ذابت بها تلك المفاهيم –عبر السنين- في وعي بعض النخب المثقفة الحالية لتشكل آلية تعاطيهم مع ما يخالف تصوراتهم الشخصية عن الفن، وهو الأمر الذي لا يصلح معه اعتبار التشابه بين التحديات التي واجهتها الجماعة في زمن تشكيلها، وما يواجهه الإبداع حاليًا من معوقات، كنتيجة لـ« تباطؤُ حركة واقع الناس بسبب كسلِهم الفعليّ عن التغيير في شتى مجالات الحياة وعجزهم عن التحرّر من قيود المألوف» بحسب تعبير الناقد عبد الدائم السلامي، وإنما كثمار لما غُرس عبر سنين طويلة من أداء مبني على العقيدة الهتلرية.

لم يكن بيان «يحيا الفن المنحط»، رد فعل قامت به الجماعة فقط تجاه الحملة التي أطلقتها كل من الفاشية والنازية في أوروبا ضد الطليعيين، فالأيديولوجيات التي صنفت الفن الطليعي بالمنحط، كانت متواجدة في مصر أيضًا، وكان المجتمع المصري المحبط من الأحوال السياسية والاجتماعية، في الثلاثينات، يبحث عن نمط بديل لإدارة الحكم، بينما يطالع صعود كل من إيطاليا وألمانيا، وينظر إليهما باعتبارهما دولتين عظيمتين، ويفكر في اعتماد مبادئ الفاشية والنازية كحل محتمل للخروج من كبوته، حد أن صحيفة كالهلال المصرية، خرجت على جمهورها في فبراير 1939، تتساءل «هل تنجح الديكتاتورية عندنا»؟

ظهرت الجماعة، في وقت تزايدت فيه الرغبة في خلق منابر بديلة، مصممة على التحريض للثورة ضد كل المعتقدات الثقافية والسياسية التي اعتنقتها الطبقة البورجوازية المحافظة. في ذلك الوقت، كان المشروع القومي السائد –بحسب سام بردويل- يعتمد على نشر تاريخ موحد مبني على أساس تراث الفن الفرعوني، ولكن تماشيًا مع رفض السوريالية لمواءمة الفن مع الدعاية السياسية، ثار تيار الفن والحرية على دمج الفن بالشعور القومي، واعتبروه جريمة بحسب تعبير كامل التلمساني، الذي يقول إنه: «ليست هناك في عالم الفن جريمة أعظم من أن يحد الفنان عمله في أرض محددة بعينها».

وقد سخرت الجماعة ثورتها ضد مذهبي الطبيعية والرمزية اللذين تحبذهما البرجوازية، ويعتمدان في تصويرهما الجسد البشري -حتى الذي يخص الأشخاص الأكثر بؤسًا- بطريقة مثالية. فرسموا أجسادًا مشوهة ومقطعة وبشعة، لتعكس الظلم الاقتصادي المروع الذي أصاب مجتمعها. ويعكس البيان الذي تضمنه كتيب المعرض الثاني للفن المستقل الذي نظمته الجماعة عام 1941، منهجها الفني بشكل عام، حيث يقول: «لكي يقوم الفن الحر برسالته في مصر، لا بدّ له من هذه الأسس الثلاث: أولًا: الرد على تلك الموجة من التصوير الكلاسيكي المحافظ الذي لا يخجل من سوء مستواه المضمحل، ولا من جماله البشع، ولا من تعريته تلك الطبقة من نسائه المحترمات. (...) لن يفهم هؤلاء التعساء، وليس لهم أي نصيب من الفهم ليدركوا أن التصوير ما هو إلا طريقة للتفكير وللحب وللبغض وللكفاح وللعيش. ثانيًا: إثارة التعجب في أذهان الجماهير... ذلك التعجب الذي يقولون إن لا داعي له لأنه كثيرًا ما يكون مقدمة لإنارة الوعي النفسي ولبعض الانقلابات الفردية والإجماعية»، ويؤكده كامل التلمساني في تعريفه للفن الحر على أنه: «كل ما له صلة بالثقافة وغذاء الأدب الشعري الذي يجعل الفرد متميزًا. فالفن المؤسس داخل أطر متينة من المعرفة المفصلة حول الوقائع النفسية هو الذي يسمح بتسليط الضوء حول كيفية فهم الحالة الخاصة للفرد والمشاكل التي يعاني منها ورغباته واحتياجاته وأمله بمستقبل دون مجاملة ولا نفاق. عندما أقول «الفن الحر» أعني طريقة التعبير عن رغباتنا وحقوقنا عبر الأحلام وعبر الخيال دون قيود ولا رقابة ولا انتماء لزمان أو مكان... أعني الفن الذي يعبر عن ظلال الشقاء والألم اللذين نراهما واللذين يعاني منهما البشر. فكل منا بدوره يتعذب في هذا الوجود المريض، وجود مريض يتابع مجراه رغم كل الأدوية العلاجية المتوفرة والتي تحولت إلى سموم بكل ما للكلمة من معنى».


عندما صدر بيان «يحيا الفن المنحط» في نهاية 1938، أحدث جدلًا عالميًا واسعًا استمر حتى منتصف العام الذي تلاه، إلى الحد الذي وصف به جورج حنين –مؤسس الجماعة- أثره بـ«مفرقعات الألعاب النارية»، ونشرته مجلة «نوفيل ريفو فرانسيز» تحت عنوان «الشرق يدافع عن قيم الغرب». وبالرغم من ذلك تجاهلته الصحافة المصرية لدى صدوره، لكنها لم تستطع غض الطرف عن الجماعة بشكل مطلق، ففي شهر يوليو من العام 1939، وعلى الرغم من أن «الفن والحرية» استمرت في ممارسة أنشطتها عشر سنوات متصلة، كتبت مجلة «الرسالة» المصرية، تقول: «تألفت في مصر جماعة من الفنانين، سمت نفسها جماعة الفن المنحط، وهي اليوم في طريقها إلى التفرق والتحلل»، ذلك أن الفن من وجهة نظرها «نزيه وراق وسَامٍ» لا يمكن له أبدًا أن يكون منحطًا، ومضى يطرح تصوره الفسلفي عن الفن قائلًا: «إن الرسام المعجب بالأجسام، الذي يصور محاسنها ولو في أوضاع يستقبحها وتزور عنها المتعة التقاليد والآداب العامة يفلح، رغم كل شيء في إبداع الفن شرط أن يستمد وبصدق متعة الجمال (...) ولكن الفنان الذي انحرف عن مزاجه الخاص إلى تكلف ما لا تلتفت إليه نفسه من الجمال الروحي... فإنه يكون عندئذ كاذبًا ومنافقًا ويكون إنتاجه الفني منحطًا حقًا وليس فنًا»، وعلى الرغم من أنه كان على إدراك بما قبل في إعلان «يحيا الفن المنحط» وبمشروع الفن والحرية –يشير دون كلاوس- فلم يذكر الصحافي الذي كتب التقرير معرض «الفن المنحط» النازي بل قام عوضًا عن ذلك، بتحويل النقاش حول السياسات الثقافية الدولية، إلى تأمل الفلسفي عن الفن.

المدهش أن صحافي الرسالة عزيز أحمد فهمي، الذي اتخذ في بداية نقاشه حول الجماعة خطابًا يبدو تحرريًا، سرعان ما حول دفته بعد سجالات استمرت بين صحيفته وأنور كامل، أحد مؤسسي الفن والحرية، ليوجه خطابًا أصوليًا يغازل فيه عاطفة القارئ الدينية، حيث كتب تحت عنوان «الفن والحرية» دون أن يذكر الجماعة، وبشكل واضح، أنه لا يمكن للمرء أن يأمل بتحقيق أي فن أو حرية دون أن يسلم نفسه لله، قائًلا: «إن الفن أو لأكمل الفن هو ما يرضي العقل والخلق إلى جانب ما يرضي الحس، كما أن العلم هو ما يرضي الحس والخلق... الفن عندي ما يحقق المثل الأعلى الذي رسمه محمد بدينه للحياة، والعلم عندي هو ما يحقق هذا المثل، والخلق عندي هو ما يتفق وروح الإسلام».


وعلى الرغم من انحلال الجماعة في عام 1948، إلا أنها لم تجد حظًا أوفر مما وجدته عند تأسيسها، حيث وضعهم مؤرخو الفن، الذين واكبوا قيام الناصرية، في أقصى أطراف التعريفات من خلال وصفهم إما بالـ«مقلدين وأتباع الفكر الأوروبي» أو كـ«مؤيدين أصيلين للهوية المصرية»، والوصف الأخير وإن فُهم في سياق شعارات نظام يوليو القومية، إلا أنها تبدو غاية في السذاجة عند مقارنتها بكلمات كامل التلمساني عما وصفه بالجريمة!

ورغم أن الدولة لم تعلن رسميًا محاربة السوريالية والاتجاهات الفنية الجديدة، إلا «أن الحركة النقدية والحركة الثقافية في الخمسينيات والستينيات غلب عليها طابع الصراع بين تيار تقليدي محافظ وتيار يتبني أفكار الواقعية الاشتراكية ودعوات الفن "الملتزم"، وكلاهما تيار غير مرحب بالسوريالية، بل كان الإحساس العام يسير في اتجاه معاكس وساخر ومستهجن للسوريالية، الأمر الذي كان واضحًا في كتابات صحفية، وأعمال درامية وسينمائية تصور الفنان السريالي وتتحدث عن السوريالية بصورة هزلية» حسبما يشير الدكتور عماد أبو غازي، في بحث نشره بجريدة "الأخبار" المصرية تحت عنوان «زمن السوريالية في مصر.. خلفية تاريخية».


وليس أبلغ من مثال طرح أبو غازي، والمفاهيم الثلاثة التي رسخ لها معرض الفن المنحط، من المخرج خليل شوقي، الذي يملك في رصيده فيلمًا من أفضل مائة فيلم في تاريخ السينما المصرية، هو «الجبل» (1965) المأخوذ عن رواية تحمل الاسم نفسه للروائي فتحي غانم، والذي أخرج أيضًا فيلم «جنون الشباب» في عام 1975، ينتقد خلاله ظاهرة «الهيبز» الدخيلة على المجتمع الشرقي وعاداته وتقاليده، فيما دس بين أبطاله فنانة تشكيلية سوريالية ضحلة الثقافة، ومثلية جنسيًا، ويكون عقابها أن تنتحر في نهاية الفيلم.

في الذكرى الخمسين لرحيل مؤسس السوريالية أندريه بروتون، انشغلت الصحافة الفرنسية والعالمية، بسؤال:«ماذا بقي من السوريالية؟». غير أنه وبعد ثمانين عامًا على تأسيس جماعة «الفن والحرية»، لا يبدو سؤال «ماذا بقى من جماعة الفن والحرية» يحمل اي جدوى، في ظل ما يحمله التقاء كلمتي «الفن» و«الحرية» في جملة واحدة من سخرية، فبالرغم من كل ما حاربوا من أجله، لايزال الفن مضطهدًا، ولا تزال ثقافتنا أثيرة لثنائية الرفيع والمبتذل، ويتبنى بعض مبدعينا المستقلين –يا للعجب- تصورات محدودة عن الفن «الرفيع»، لا تبتعد كثيرًا عن تصور صحافي مجلة الرسالة.


(*) معرض «الفن والحرية: الانشقاق، الحرب السوريالية في مصر (1938- 1948)» هو أول معرض شامل عن جماعة الفن والحرية، ضم 130 عملاً فنياً و150 وثيقة ومحفوظة، جمعها سام بردويل وتيل فيلراث، أمناء المعرض، من القاهرة وباريس ولندن وروما وسالونيك والدوحة وبيروت ودايتون ونيويورك ولوس أنجليس وشيكاغو وطوكيو، وقد عرض المعرض في مركز بومبيدو في باريس، في إطار احتفاله بالذكرى الخمسين لوفاة أندريه بروتون، وفي متحف الملكة صوفيا في مدريد، وفي متحف الكونستساملونج K21 في دوسلدورف، وفي متحف التيت في ليفربول. وصدر الكتالوغ الخاص به في ثلاث لغات، الإنكليزية والفرنسية والعربية.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها