الأحد 2018/04/29

آخر تحديث: 08:14 (بيروت)

محمد منير.. اخضرار الصوت في واقع مجدب

الأحد 2018/04/29
increase حجم الخط decrease
هل تستوجب الكتابة عن محمد منير أن يكون هناك حدث محرّك للقلم؟ الصوت الذي حرر الأغنية من ظرفيتها الضيقة واقترانها المغلول بمناسبات زمكانية عقيمة وأغراض محدودة متوارثة، هل يجوز لمستمع بسيط أن يحتفي به وقتما شاء من خلال التداعي الحر، خارج علاقات الارتباط وقوانين الربط؟

وعكة صحية أخيرة ألمت به في نيسان/ إبريل الجاري، استلزمت جراحة أجراها بنجاح، كانت نافذة للمثقفين والفنانين للإطلال بكلمات ووردات، منها مؤازرة عمرو دياب بتغريدته القلبية "خالص تمنياتي بالشفاء العاجل للكينج محمد منير، بإذن الله ترجع لجمهورك بالسلامة".


جرس آخر يدقّ في هذه الأيام، مشيرًا إلى مرور أربعين عامًا بالتمام والكمال على ولادة "بنتولد"، مفاجأة منير الغنائية وعنوان ألبومه الصادم في العام 1978، بكلمات عبد الرحيم منصور وألحان هاني شنودة، والإعلان آنذاك عن بلورة لون فني جديد مختلط بقوس قزح، بزغ ليحرّك الماء الراكد، ويستخرج أسماكًا ملونة.

مثل هذه المنبّهات، وغيرها، لا تلزم المستمع البسيط في حديثه المختلف عن منير، فهو لا يريد إقامة مأدبة عشاء مدججة بأصناف الطعام الفاخرة، ثم ينتهي الأمر مع ساعات الصباح الأولى وكأن شيئًا لم يكن، لكن كل ما يوده أن يتمكن هو نفسه من الإقامة في صوت منير، ولو لبعض الوقت، فساعتها سوف تنطلق الاحتفالية من تلقاء ذاتها بعبارة: "عرفتُكَ.. فأذنْ لي بالكلام".

شأن الحواديت الشعبية غير معروفة البداية والنهاية، يأتي محمد منير "حدوتة مصرية" مفتوحة لا تهاجر الجذور فيها أرضها، مثلما تقول الأغنية التي احتواها فيلم يوسف شاهين الشهير في العام 1982، وهي من كلمات عبد الرحيم منصور وألحان أحمد منيب، وفي الحواديت دائمًا حكمة "الغوص في قلب السر، والحكي عن المكنون".

أساطير كثيرة نسجها وجع أرض النوبة الغارقة ونزيف المهجَّرين منذ ستينيات القرن الماضي، بعضها خارج التصور، ومنها ما يمكن تصديقه وتقبله، كأغنيات الشاب الأسمر، منكوش الشعر، لامع العينين، الغاضب من السد العالي والتكريس له كمشروع قومي حاضن.

هذا الغضب، جاء معادلًا لثورة منير على كل الأصنام التي كان يجري التهليل لها آنذاك، بما فيها قوالب الغناء السائدة في أواخر السبعينيات، وعلى رأسها الرومانسيات والوطنيات الممسوخة، المستنسخة على أيدي مطربين وموسيقيين شبّان باهتين، من أعمال العندليب عبد الحليم حافظ، الذي غادر الدنيا في 1977، مختتمًا مرحلة فنية لا يجوز تقليدها.

من منابع النيل العليا، حمل محمد منير سُمرة الطمي الخصيب وتاريخ البلاد والعباد ليقول كلمته البريئة كبكارة النوبة، الحرة كصرخة الميلاد، المرتبكة كأحلام جيله، الارتجالية كموسيقى الجاز التي لم يجد غضاضة في إفساح مجال لها في أعمال لاحقة، الفوضوية من غير عدمية أو انهزامية.

ترك منير لصوته اليافع اليانع ممارسة الاخضرار والتفتح في واقع مجدب على كل المستويات، اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، سيطرت فيه بلبلة كامب ديفيد على الأجواء، وتخلخلت المفاهيم والقضايا الكبرى، وتأزمت العلاقات المصرية العربية.

تمسك منير بالحياة، على حالها، واحتفى بـ"صهللتها" وبذخها وعنفوانها في مواجهة التجريف والجمود والتغريب من حوله. الغناء هو ببساطة نبض القلب كإيقاع صاخب مجرد، وخلق لمفاهيم جديدة في الفن وأساليب مختلفة في الأداء. الغناء هو كل شيء، وهو لكل شيء مهما بدا عاديًّا أو مجانيًّا أو صغيرًا أو غير ذي صلة بالغناء التقليدي الراسخ.

هكذا يتحول "وطني حبيبي الوطن الأكبر" عند الموسيقار محمد عبد الوهاب إلى صورة محفوظة في قلب الشاب الذي أراد لثورته الفنية أن تطول الأغنية الوطنية أيضًا: "يا عروسة النيل يا حتة من السما.. يا للي صورتك جوه قلبي ملحمة"، وهذه الصورة هي شمعة الإنارة التي قد تبدو صغيرة، لكنها قادرة أبدًا على أن تضيء الصدور.

الأغنية السياسية كذلك تخلت عن منبريتها ومباشرتها وزعيقها، وتجاوزت نخبويتها في أعمال منير الإنسانية ذائعة الصيت، وهذه الشعبوية لا تتعارض مع عمق الطرح وشمولية الرؤية للمشهد العام المحيط، كما في أغنية "ساح يا بداح" من كلمات كوثر مصطفى وألحان فتحي سلامة: "ايه اللي اتكسر؟ فص اللولي ولا المرمر؟ طول العمر العسكر عسكر، بس الناس الناس كات ناس".

ثلاثة فضاءات واسعة انطلق منها منير إلى نسف الأغنية القديمة الكاسدة بعد رحيل حليم، وابتداع ملامح حركة غنائية جديدة متكاملة: الموضوعات والكلمات غير النمطية، الموسيقى الإفريقية بتوزيعات وآلات غربية، الأداء المشع حيوية ودينامية وتفاعلية مع المتلقي وقدرة على استثارة الطاقة الإيجابية.

على مستوى الحرف، غنى منير قصائد العامية المصرية في أرفع نماذجها وليس "كلمات غنائية" تدور في فلك الهيام والعشق والاشتياق واللوعة والتأوه كما كان سائدًا، فاقترن اسمه بكبار الشعراء من أمثال: بيرم التونسي، فؤاد حداد، صلاح جاهين، أحمد فؤاد نجم، عبد الرحمن الأبنودي، عبد الرحيم منصور، مجدي نجيب، وغيرهم.

انفتحت أغنيات منير منذ بداياته المبكرة على تيمات تعبيرية اجتماعية وإنسانية واسعة النطاق، فلم يكن أحد يتصور أن تدور على ألسنة العوام أغنيات من قبيل: يا بلح أبريم يا سمارة، شجر اللمون دبلان على أرضه، تعال نلضم أسامينا، علموني عنيكي أسافر، الفرصة بنت جميلة، قلبي مساكن شعبية، في دايرة الرحلة، بره الشبابيك غيوم مطر، كل الحاجات بتفكرني، طعم البيوت، وغيرها.

"كل شيء بيتسرق مني.. العمر م الأيام، والضيّ م النني"، لا يحتشد منير للغناء بأنساق بعينها، إنما تتسع الأغنية لكل تفصيلة من تفاصيل الحياة، وتراقص كل كائن حي، وتستوعب كل نشاط إنساني، فبقدر ما توجد المعاني توجد الأغاني، ولا بأس من إعطاء العشق حقه والعلاقة بالأنثى، لكن وفق تصورات مغايرة "يا نجمة كل ما ضيّها يلمس حجر.. يعلى ويتحوّل قمر".

جنون الكلمة والموضوع، رافقته جرأة في الموسيقى والتوزيع، حيث المزج بين الشرقي والغربي والإفريقي واستخدام أحدث الآلات بأسلوب فريد في العزف والتوزيع واستيعاب روح موسيقى الجاز وارتجالاتها، بما حرر الأغنية من محليتها وأطلقها مبكرًا إلى مدارات العالمية، فكانت حفلات منير في ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة كاملة العدد في الساحات العامة، سواء غنى بالعامية المصرية أو باللهجة النوبية.

لم يكن السلم الخماسي شائع الاستخدام في الأغنيات المصرية والعربية، إلا في تجارب قليلة لمنير مراد وبعض الموسيقيين الذين درسوا الموسيقى النوبية والإفريقية، ومع ظهور منير اتسع المجال لهذه الألحان خصوصًا التي قدمها الموسيقار النوبي أحمد منيب، الذي صاحب منير في أغنياته الأولى.

وقد اكتملت ملامح هذه المدرسة الجديدة بظهور موسيقيين وموزعين طوروا ما بدأه منيب، منهم هاني شنودة ويحيى خليل وفتحي سلامة، لتسفر التجربة الملتفة حول صوت منير عن ألبوم "شبابيك" في مطلع الثمانينيات، الذي حقق مبيعات قياسية، وجرى تصنيفه كأحد أبرز الألبومات في القرن العشرين، وقد كتب مجدي نجيب الأغنية التي تحمل عنوان الألبوم، ولحنها أحمد منيب، ووزعها يحيى خليل مقدّمًا "الجاز" للمرة الأولى في أغنية عربية.

"الصوت في الضواحي.. وفي كل النواحي/ اصحى ياللي نايم.. واصحى ياللي صاحي"، كلمات فريدة من نوعها لعبد الرحمن الأبنودي، لحنها جمال سلامة، لتشكل منعطفًا في مسار منير التجديدي، حيث اتجاهه إلى الدرامية والمسرحة في أعماله التلفزونية والمسرحية، ومنها مسلسل "جمهورية زفتى" الذي غنى فيه "الجماهير في حضني"، فلكأن الأبنودي يعلن رسميًّا تتويج "الكينغ" على العرش.

تمرد الكلمة والنغم والإيقاع والتوزيع في تجربة منير كان ضروريًّا اقترانه بأداء فردي يُكمل الكاريزما، فصورة المطرب أيضًا ينبغي أن تتغير مع تغير ما يقدمه، فلا مجال للثبات على المسرح وارتداء ملابس رسمية وتقديم ما هو متوقع، بل هي الفوضى الجمالية والعصبية الفنية المقبولة المشعة حيوية ودينامية ونضارة، والدفق التفاعلي الذي يفجر طاقة إيجابية لدى المتلقي المشارك في العمل الغنائي بقدر.

محمد منير، الأثر الممتد لمذاق الشوكولاتة الذائبة ببطء في الحواس، "بكار" الذي يفتح أزرار قميصه ولا يكبر أبدًا، المغني الذي تُكسبه أغنياته حصانة وتحقنه بضوء القمر، الرهان المستمر على الاخضرار في واقع لا يزال مجدبًا.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها