الأربعاء 2018/04/25

آخر تحديث: 13:19 (بيروت)

لماذا نحب "صلاح"؟

الأربعاء 2018/04/25
لماذا نحب "صلاح"؟
« بعنا كوتينيو ... لكن لدينا صلاح».
increase حجم الخط decrease
لا يحب الأرجنتينيون «ميسي»، لأنه لا يفتأ يخذلهم كلما عقدوا آمالهم عليه، ونحب «صلاح»، ليس لأنه الأمهر، أو لأنه يحقق الإنجازات بدلًا منّا، لكن لأنه لم يخذلنا سواء علقنا عليه أمالنا أو لم نعلقها.

عندما ظهر يورغن كلوب، مدرب ليفربول، عبر فيديو مسجل، بُث عقب الإعلان عن جائزة أفضل لاعب في الدوري الإنكليزي، قال مداعبًا صلاح، بعدما هنأه: "استمتع الليلة وعد إلينا سريعًا فلدينا مباراة يوم الثلاثاء"، ولا أعرف لماذا تلقيت تلك الجملة، كإعفاء مسبق لصلاح من عبء مباراة دوري الأبطال. فاللاعب قام بدوره فعلاً، وتوِّج أفضل لاعب في الدوري، ويُنتظر من زملائه القيام بدورهم أيضًا، فيتكفلوا بتلك المباراة بدلاً منه، ليتركوه يستريح قليلًا.
تعلقت عيناي بأقدام فيرمينيو وساديو ماني، لكنهما ضيّعا كل فرصة أتيحت لهما، خصوصاً ذلك الأخير، فلم يجد صلاح بدّاً من القيام بدوره –كالعادة-، وسجل هدفي فريقه الأوليين وصنع الثالث والرابع، ليضع قدمه وزملاءه في مباراة النهائي.

***

أكره وصف "اللاعب الخلوق"، ولا أراه إلا وصفًا فقيرًا صاغه ميراث طويل من الخذلان، ولا أجد لاعبًا آخر يوصف به غير لاعبينا المصريين، كأنما المجهود الذي يبذله اللاعب داخل الملعب غير كاف وحده لينال تقدير الجمهور خارجه، أو كأنه مبرر مجاني يفسر من خلاله اللاعبون فشلهم في تحقيق الإنجازات.

في كأس القارات 2009، خرجت مصر بهزيمة مذلة من الولايات المتحدة الأميركية، بعدما كانت قد رفعت أمالانا عاليًا بأداء مذهل أمام البرازيل ثم فوز تاريخي على إيطاليا. عشية تلك المباراة، سُرقت غرف اللاعبين، وحتى تتنصل إدارة الفندق من مسؤوليتها عن الحادث، ادعت أن المسروقين اصطحبوا إلى غرفهم فتيات ليل، هن اللواتي استولين على أغراضهم. وفسر الإعلام المصري –الذي صك بنفسه وصف اللاعب الخلوق- الأمر على أنه ذلة أخلاقية، وخرج اللاعبون يلومون الإعلام على شكه فيهم، ويعايرون الجمهور بأنه لا يستحق ما فعلوه من أجله، لأنه شك –ولو للحظة- في أخلاقهم وهم الوحيدون الذين كانوا يسعدونه قبل ذلك. لكن هذه الأخلاق الحميدة، التي خشي اللاعبون عليها من الدنس، لم تكن بينها صفة الشجاعة، التي قد تجعلهم يتحملون المسؤولية ويعتذرون للجمهور عن فشلهم وخذلانه. هل كان صعبًا على أصحاب الأخلاق هؤلاء أن يعترفوا بالهزيمة وبمسؤوليتهم عنها، وفي الوقت نفسه ينفون التهمة عن أنفسهم! كرهت هذا المنتخب ولاعبيه كلهم بسبب تلك الواقعة!

***

منذ زمن بعيد ولدينا الكثير من المحترفين في الدوريات العالمية، لكن تجاربهم كانت فقيرة؛ لعبوا في دوريات ضعيفة، أو سطعوا كومضات سريعة ثم انطفأوا إلى الأبد، لم يكن لديهم مقومات الاحتراف، وفشلوا في التكيف داخل بيئة أخرى غير التي عهدوها في مصر.
لذلك لم أضع –في البداية- أمالاً عريضة، على صلاح الذي خرج من المقاولين العرب، إلى الدوري السويسري، من فرقة متواضعة المستوى في مصري، إلى دوري متواضع المستوى في أوروبا، ربما شبعت من مقالب "ميدو" و"حسام غالي" و"زيدان" و"عمرو ذكي"، وإن سجل صلاح بقميص بازل في "بيتر تشيك" "رايح –جاي"، فقد سجل من قبله "غالي" في شباك الحارس نفسه وأقصى فريقه من الكأس الإنكليزية، ومن قبلهما هز "ميدو" شباك "ريال مدريد"، فما الجديد؟

لكن إنجازًا أدركه صلاح، بعد موسم ونصف فقط من انضمامه لـ"بازل"، لم يكن لأحد أن يتوقعه؛ باتت تتصارع عليه الأندية الكبرى في إنكلترا، الدوري الأقوى في العالم، قبل أن يظفر "تشيلسي" بضمه، وما كدت أحلم به نجمًا عالميًا، حتى أيقظني شبح سقوطه، ليس لأن جوزيه مورينيو لم يمنحه الفرصة الكافية لإظهار قدراته، وإنما لأنني ظننت أنه كنظرائه من لاعبينا لن يستطيع التكيف في بيئة غير المصرية!


كان نيمانيا ماتيتش زميله في الفريق، يتحدث في حوار تلفزيوني لقناة النادي، فقال إنه لم يسمع في حياته أسوأ من "الموسيقى" التي يستمع إليها صلاح، ساعتها تحول تصريح ماتيتش إلى "نكتة"، حيث تخيل المصريون إن مواطنهم يسمع أغاني "المهرجانات الشعبية" ويزعج بها زملائه، غير أنه خرج ليرد عبر تويتر: طيا جماعة مش أغاني، دي أناشيد الشيخ مشاري العفاسي، بس هما فاكرينها أغاني"، وكأن استماعه للأغاني تهمة لا بد أن يدرأها عن نفسه أمام جمهور مصري يعتبر الموسيقى "حرامًا"، في سبيل أن يرسخ نفسه كـ"لاعب خلوق"!

لكن صلاح خيب ظني، لأنه سرعان ما أثبت أنه يستطيع الانفتاح على العالم والتكيف معه، من دون أن يفقد هويته أو يغيّر معتقداته، لم ينشغل بغير العمل والتعلم من أخطائه وأخطاء من سبقوه، فقطع مشواره إلى العالمية بدأب وصبر ليعود إلى إنكلترا هذه المرة كملك، يحمل خطابًا يتوجه به إلى العالم أجمع -وليس إلى فئة صغيرة منه- تتكون مفرداته كلها من مرادفات "الاجتهاد".

لم يكن أداء صلاح هذا الموسم مع ليفربول طفرة، بل مرحلة جديدة ينتقل إليها في سهم مستواه المتصاعد، فالتفوق الذي يبديه حاليًا، لا يرجع لكونه لاعبًا موهوبًا فقط، وإنما لأنه مجتهد في المقام الأول، وتبدو تلك المفردة الأكثر دقة في وصف أدائه عن غيرها، إذ يضمر الاجتهاد في معناه الثبات على المستوى والسير بخطى حثيثة نحو التطور، وهو تطور يسير بنفس السرعة التي يجري بها صلاح داخل الملعب وبالاتزان ذاته.

إن محمد لم يربّ الأمل في قلوب المصريين فحسب، وإنما فتح عيوننا على قيم جديدة ملموسة، تجعلنا نعيد النظر في تقديراتنا السابقة لكل شيء وليس الكرة فقط، وقياس كل ما هو متقدم أو لاحق بمقياس جديد، ربما سيصير اسمه مقياس "مو"، لقد غير صلاح لغة المصريين من "أهم حاجة الأخلاق" كتعزية عن غياب الإنجاز، إلى إنه "لاعب مجتهد" يصبح معه المستحيل ممكناً.

***

قبل الإعلان عن فوز محمد صلاح بجائزة أفضل لاعب في الدوري الإنكليزي، عرض منظمو الفعالية تقريرًا عن طفل مصاب بمرض جلدي نادر، يحب الكرة، ويظهر خلاله ديفيد بيكهام اللاعب الإنكليزي الأشهر، وهو يمنح الطفل دعوة لحضور الحفل، بينما يحرص على ألا يلمسه أو يصافحه، وعقب الإعلان، وبعد أن تسلم صلاح جائزته، حملها وذهب بنفسه ليصافح الولد الصغير ويلتقط صورة إلى جواره، وقد كتب الزميل أسامة فاروق، في صفحته الفايسبوكية يشير إلى هذه اللافتة الإنسانية من صلاح، ولأنني لم أشاهد الفيديو، ذهبت لأبحث عنه في صفحة اللاعب الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي، لكنني لم أجد التقرير، ووجدت بدلا عنه صورة لصلاح وهو يحمل الجائزة بين يديه، وأسفلها عشرات الآلاف من التعليقات المهنئة، ومن بينها أخرى تطالبه أن يتكفل بعلاج أحد المرضى المصريين، هؤلاء الذين طلبوا مساعدته، وهم بالمئات، لم يتوجهوا للاعب لأنه يمتلك الكثير من المال الذي لن يتأثر إن أنفق القليل منه على تلبية أمنيات بعضهم، ولكنهم توجهوا إليه، دونًا عن غيره من الأغنياء، لثقتهم في أنه لن يخذلهم أبدًا، ومثلهم جمهور ليفربول الإنكليزي، الذي لم يخش على فريقه من رحيل «كوتينيو» إلى برشلونة، وغنوا له "بعنا كوتينيو ... لكن لدينا صلاح".

لدي ثقة في أن ليفربول سيتجاوز "روما" في إيطاليا، الأسبوع المقبل، وسيصعد إلى نهائي دوري الأبطال، وعندي أمل في أنه سيفوز بالبطولة الأوروبية، ومعي الملايين في ذلك، لأننا نثق في صلاح، الذي سيحصد جائزة أفضل لاعب في العالم هذا العام، وإن لم يحدث ذلك الآن، فسيحدث في العام الذي يليه، أو ربما في عام لاحق، لكنه حتمًا سيحدث لأن صلاح لن يخذلنا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها