الجمعة 2018/04/20

آخر تحديث: 13:26 (بيروت)

"أغادير" يطو برادة: الكارثة كفرصة

الجمعة 2018/04/20
"أغادير" يطو برادة: الكارثة كفرصة
لقد كلفت بأن أقيم المدينة من سقطتها
increase حجم الخط decrease
"لقد كلفت بأن أقيم المدينة من سقطتها. أعن طريق المحكمة أستعيد مدينة؟ أين مكان المأساة؟ ومن الفاعل؟ لا أفهم. مدينة تكون مريحة، ونقية، ونقية.

فيها شوارع جميلة، ومن غير أزقة، وارتعاشات من الريح بطول الواجهات، وعطور فواحة تبعث على الحلم، ومصلحة للنظام منتظمة وليست قاسية، وملتقيات لطرق من غير أضواء حمراء، وإجمالاً فصل حقيقي، يقود كل واحد إلى الحياة الجيدة، مدينة بلا حشد، تسلم فيها كل طلبية في البيت من غير أن يُرى القائم بالتسليم، وحيث يكون على كل واحد أن يقوم بمهمة محددة.

لا مدينة من أحمر وأبيض فوق قمة حمراء طرقها من الحفر العميقة. مدينة من طوابق مبعثرة حسب التضاريس. بدون أرض ظاهرة، ولا غبار. وبدون سلالم لكن فيها زرابي متنقلة وسيارة أجرة كهربائية لكل واحد.

سأضع تصميماً لهذه المدينة. ولربما يكون ذلك هو السبب الذي لأجله كلفت بأن أكون هنا".

في رواية، المغربي محمد خيرالدين، "أغادير" (صادرة بالفرنسية، 1967)، ينتهز موظف مؤسسة الضمان الاجتماعي، فرصة وصوله إلى مدينة أغادير، ضمن لجنة رسمية لتقييم أثار كارثة زلزال 1960، ليتصور مخططاً ليوتوبيا يتم بنائها على أنقاض المدينة المدمرة. لكن نص خير الدين المشوش عمداً، وتخريبه للغوي والسردي، ليس العائق الوحيد أمام اكتمال أحلام الموظف أمام القارئ، فشخوص الرواية الأخرى، الملك والفقيه والنقابي العمالي والببغاء والمرأة المقاتلة، تنخرط في جدالات فردية وجماعية، عن الطريقة المثلى لإصلاح تلك البنى التي تحكم أشكال الحياة، دون الوصول إلى نتيجة حاسمة.
 


تستلهم الفنانة المغربية، يطو برادة، رواية خير الدين، كنقطة الانطلاق، لعرضها التشكيلي "أغادير"، المقام حاليا في مركز "الباربيكان"، في لندن. تستكمل برادة ما بدأته في أعمال سابقة، أي تشريح العلاقة بين ثلاثية السلطة والبيئي والمعماري: "دليل المتوتر واللامتعمد في حب الأرض"، في فحص العلاقة بين الإيديولوجي والبصري، و"دليل الحكام والبساتين في استعمال الأشجار"، عن مسألة العلاقة القسرية بين السياسي والبيئي والإنشائي، و"مشروع النخلة" في تفكيك رمزية الطبيعي/الإيكولوجي المزدوجة كرمز للغرائبية الاستشراقية والفلكلورية الذاتية.

تأتي "أغادير" في سياق سلسلة من العروض الذي يقدمها مركز الباربيكان هذا العام، تحت عنوان "الفن للتغيير" المعنية بفحص الطرائق والممارسات والسرديات والصور التي يتأقلم عبرها أو يتفاعل من خلالها الأفراد والمجتمعات مع التحولات. تلجأ برادة في معرضها إلى أكثر صور التغيير درامية، وأشدها عنفا، واعتباطا، وطبيعية، أي الزلزال. لكن الخراب الكامل، الذي خلفته كارثة 1960، في أغادير، ليس مجرد تكثيف لفكرة التغيير في صورتها القصوى، بل رمزا طوبيا لكل الأخيلة الثورية، الحالمة بهدم القديم أولا، ومحوه بالكامل، قبل الشروع في البناء.

وعبر خليط من اللوحات والصور الفوتوغرافية والمجسمات واللقطات السينمائية التسجيلية، وكذلك المقاطع الصوتية من رواية خير الدين، وأداء مسرحي لبعضها، تقدم برادة نسيجاً من السرديات الشخصية عن الكارثة والتعامل مع ما بعدها، وتمثلات السلطة الأوسع في عمليات إعادة البناء، لتكشف عن الصلة بين موضوع العرض ومكانه. فأغادير التي أُعيد اعمارها بعد الاستقلال مباشرة، استلهم مصمموها الطراز "الوحشي" في إعادة تشييدها، وهو ذات الطراز الذي بنى طبقا له مكان العرض نفسه، مركز الباربيكان. لكن هذه ليست مجرد صدفة أحسنت برادة استغلالها، فالمركز اللندني الذي بُنيّ على موقع كان قد تعرض لأقسى الغارات الجوية النازية في الحرب الثانية، كان معنيا به أن يكون تطبيقا لأحلام طوباوية لعالم السلم ما بعد الحرب، ودولة الرفاه وقيمها الاجتماعية.

البربيكان، المركز الثقافي الأكبر في أوروبا، والمبني في وسط مشروع ضخم للإسكان الاجتماعي، وطرازه "الوحشي"، المتجرد من الجماليات "البرجوازية"، والمتقشف في الشكلي لحساب الوظيفي، يتشابه مع التصميمات "الوحشية" لبنايات مدينة أغادير بعد إعادة إعمارها، ومع منطقها التقدمي بوصفها نموذجا لمدينة ما بعد الاستقلال. 



لكن صفة "الوحشية" التي راجت على ألسنة النقاد المعماريين، لا المصممين أنفسهم، ومبانيها الخرسانية شديدة الضخامة، والقبيحة عمدا غالبا، وحسها الاجتماعي والمركزي، والتي هيمنت على مدن العالم الرأسمالي والشيوعي سواء بسواء ما بين عقدي الخمسينات والسبعينات، لم تحمل منهجا معماريا متماسكا، ولم تتجاوز سوى كونها حالة من "الروح الجدية" والجرأة، تحلى بها مجموعة من المصممين ومموليهم الحكوميين. وفي ذات السياق، ففي كلا من الباربيكان وأغادير، كانت "الوحشية"، قبل أي شيء، أجندة إيديولوجية لإعادة البناء من منطلقات جديدة، وعلى خلفية قيم اجتماعية وتصورات سياسية بعينها، وعلى أنقاض الماضي، ومحاولة تفادي مصيره.

توزع برادة في معرضها، عدداً من المجسمات لكراسي الشاطئ مصنوعة على الطريقة التقليدية، تتمثل فيها الحد الأدنى من الفعل الفردي في مواجهة التحولات، أي "الجلوس"في صوره المتعددة: كانتظار، واحتجاج، ووحدة، وصحبة، وراحة، واستشفاء. هكذا، وبالقفز ما بين التاريخ المعماري لأغادير، والروايات الشخصية، لا تكتفي برادة بتأكيد الطبيعة السياسية، لعملية التصميم والتطوير الحضري، بوصفه تبريراً لوجود السلطة وأداة لها في نفس الوقت، ولكنها أيضا تكشف عن السبل والممارسات التي يتأقلم من خلالها الأفراد مع البني المادية والمعنوية التي تفرض عليهم، ومقاومتهم لها أحيانا، وتحايلهم عليها في أحيانا أكثر، وخضوعهم لها وتشكلهم طبقا لقوالبها في أغلب الأحيان. ويتركنا "أغادير" في النهاية، بالرغم من كل مأسوية ذاكرته، بقليل من الأمل في الكارثة بوصفها فرصة لبناء لعالم جديد تماما.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها