الأحد 2018/03/04

آخر تحديث: 09:07 (بيروت)

زبيغنيو دلوباك... وريث الطليعيين

الأحد 2018/03/04
increase حجم الخط decrease
وسط جدالات التيارات الفنية وضغوط السلطة، حقق وريث الطليعيين البولوني زبيغنيو دلوباك Zbigniew DLUBAK  (1921- 2005) أعماله الفوتوغرافية ونشر نظرياته الفنية الجريئة. ويعتبر أحد أهم ممثلي تحولات المشهد الفني الأوروبي بعد الحرب الثانية، وأجرأ مختبري الأشكال الفوتوغرافية. رسّام وناقد فني. درّس الفن ونشر أشهر المجلات الفوتوغرافية البولونية-(Fotografia)- استمرت لأكثر من 20 عاماً. أدخل النقد الفوتوغرافي الجاد إلى مواضيعها، وحالة من تداخل الإختصاصات في طريقة تناول هذا الفن. في حياته، كان محط تقدير في الوسط الفني الأوروبي. تعددت معارضه الفردية، ودخلت أعماله إلى أهم المجموعات العالمية.

اشتهر كمصور فوتوغرافي، لكنه رغب في أن يصبح رساماً رغم معاناته في الحصول على مواد الرسم أثناء الحرب. نشاطه في هذين المجالين، الرسم والفوتوغرافيا المنفصلين والمستقلين حسب المنظور التقليدي، أثّر في انفتاح الأشكال الفنية وإزالة الفواصل في ما بينها. دافع بثبات عن حق الفوتوغرافيا في الوجود كنهج مستقل.

في تجاربه الفوتوغرافية الأولى، تنوعت التأثيرات التي استلهمها من الممارسات الفنية، من التقاليد البنيوية والسوريالية. افتتن باللسانيات، وآليات المقاربات المنهجية، وإتجه أخيراً إلى ما سمّاه "إخفاء الدلالة".

يضيء المعرض الحالي ("مؤسسة كارتييه- بريسون"- باريس) على نقاط التشابه والتكامل بين الفوتوغرافيا والرسم في أعماله. حقبتان حاسمتان من حياته الفنية تناولهما المعرض: سنة 1948، بداية احترافه وإنتمائه إلى الطليعة الفنية، وحقبة السبعينيات، التي تجسّد موقعه الملتبس إزاء الفن المفهومي.

في أعماله الأولى وثّق أنشطة المقاومين الذين انضم إليهم. سُجن إثر مشاركته في إنتفاضة فرصوفيا سنة 1944. في المعتقل النازي كُلف بمهام في مشغل التصوير. في 1947 أظهر هذا الفنان المبتدئ ميلاً لفهم التيارات الفنية البارزة، والتي كانت تُعتبر في بولونيا "الحداثة الفوتوغرافية". أظهرت أعماله في تلك المرحلة نوعاً من التصويرية، وارتبط بشكل سطحي بـ"النظرة الجديدة" على خطى يان بولهاك الألماني، أب الفوتوغرافيا العصرية البولونية. إلى ذلك، جمّع دلوباك أشياءً تافهة (عيدان كبريت، أزرار، مسامير، براغي...) صوّرها كأنها مشاهد طبيعية تجريدية، من دون نسب المنظور، على طريقة الفنانين البنائيين. لا شيء في هاتين المجموعتين أوحى بما يمكن أن تتضمنه صوره التي عرضها في نهاية الأربعينيات.

ليست أصالة دلوباك في خلق المذهل بل في العثور عليه، وتعكير المألوف من المرئي الإعتيادي الراسخ، لكن من دون تعتيم الأصل الواقعي للصورة وتأثيرها الشاعري. لم يكن همه مصالحة التقاليد الفنية التي كانت منفصلة في السابق، بل فك التناقض والإختلاف بين التجريدية والتصويرية. لقطاته المقرّبة والتأثيرات التقنية الطباعية، لم يقصد بها الإيحاء بالإبتعاد عن الواقع، بل أرادها طريقة لولوج هذا الواقع، لا كشيء مخفي أو رؤيا روحية، إنما لإظهار الكامن الذي يتيح فهماً دقيقاً للواقع. كتب في مقاله "تأملات حول الفوتوغرافيا": "الواقعية الفوتوغرافية هي واقعية من نوع آخر، الدقة والتمسك بالشيء، الذي يكتسب هنا طابع المادة الأولية، يمنع كل حيلة، لأنها سرعان ما تنكشف. تتطلب هذه الواقعية الإعتماد بشكل أساسي على الطبيعة وتجنب السرد... الفوتوغرافيا هي في طور مع إيقاع الحياة. إنها، بقليل من الصبر، تبحث عن صور جديدة. فكلما راكمت الصور، تزداد شهية وإلحاحاً. إنها لا تكتفي فقط بالتتسجيل والتوثيق، لكنها بخضوعها للخيال، تخلق ظواهر جديدة. إنها تقودنا باستمرار إلى تجارب جديدة، تصدمنا، ولا تدعنا نرتاح".

"لست معنياً بأية مؤثرات أسلوبية، أكان مصدرها الفن الحديث أم الفن المفهومي. أستخدم الأشكال والأفكار والألوان والكلمات والصور الفوتوغرافية والإيماءات... بطريقة تنسجم مع فني، لأخلق دلالة فارغة في سياق الواقع الذي أعيش فيه... يكمن الدور الإجتماعي للفن في إدخال عامل الرفض إلى الوعي الإنساني، فهو يتيح مناقشة صلابة المخططات والإصطلاحات في تحليل الواقع. الفن هو بحد ذاته تطور، إنه إدخال لوسائل تعبير جديدة." كتب.

شهدت السبعينيات أحداثاً وصفها مؤرخو الفن البولوني بـ"الظواهر في الفن المفهومي"، هي عبارة عن معارض ولقاءات فنية، توضح أعمال دلوباك وإلتزاماته. أقيمت بمشاركة السلطة وجمعت فنانين ونقاداً يمثلون مختلف التيارات التجريبية لجذب مشاهدين لم يعتادوا الفن التجريبي، ولإدخال الفن المعاصر إلى البيئات الشعبية والضواحي.


السبعينيات بالنسبة لدلوباك، بداية سلسلة خصص لها السنوات الثماني التالية عنوانها "منظومات- إيماءات"، بدت كأنها تطابق قواعد الفن المفهومي، لكنها تشير في الواقع إلى إنشقاق دلوباك عن هذا التيار. رغم أنه لحظ نشاطاً نظرياً كجزء من ممارسته الفنية. كان مقتنعاً بالحاجة إلى دور وسائطي للفن.


لماذا انشق دلوباك؟ ربما يكمن الجواب في بعض كتاباته. كتب في 1977: "في طموحه إلى التطهر الشامل، وضع الفن المفهومي لائحة من الممنوعات تتعلق بوسائل التدوين والتبادل الفكري، وأعدّ شكل وسائطه التعبيرية الخاصة به وتقوقع فيها."... في مكان آخر، أرجع دلوباك فشل الفن المفهومي إلى الأسباب التالية: "التأويل الخاطئ للنماذج الفنية القديمة؛ سوء تقدير لمناهضة جمالية النصف الأول من القرن الماضي؛ الإهتمام الفائق بوسائل تدوين الأفكار؛ إيمان غير مبرر بوجود الفكرة بمعزل عن تدوينها؛ الإعتقاد بظهور عصر فني جديد عن طريق اختيار مواد أخرى لتحقيق الأفكار".

رغم إرتباطه ببعض هذه الأشكال، حرص على صون حريته. وإن لم يؤمن بإلغاء الموضوع، فذلك لأن العمل الفني بنظره "هو نتيجة لقاء، ومحرّض على الحوار الإجتماعي".
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها