الخميس 2018/03/29

آخر تحديث: 16:28 (بيروت)

أميركا تنتحر وتقتلنا

الخميس 2018/03/29
أميركا تنتحر وتقتلنا
من ضحايا قصف قوات النظام للغوطة الشرقية (غيتي)
increase حجم الخط decrease
أبرز الإعلام الغربي، ومعه مواقع التواصل الاجتماعي، خلال الأيام القليلة الماضية، أربع وقفات ذات دلالات مرعبة، ليس في سياق الحرب السورية فحسب، بل إن الخشية قد تطاول المنظومة الليبرالية عالمياً، لا سيما في ما يتعلق بقيم حقوق الإنسان التي أُرسي عليها عالمُ ما بعد الحرب العالمية الثانية. 


ورغم التحفظات الكثيرة على الأداء الدولي في مجال حقوق الإنسان، وافتقاره إلى التعزيزات اللازمة، بل وأحياناً استغلاله سياسياً خدمةً لأغراض لا علاقة لها بالكرامة الإنسانية، والكلام الكثير عن أن جزءاً معتبراً منه ما زال عالقاً في الأدبيات والبروتوكولات.. فإن وجوده، مجرد وجوده ولو بالمعنى المرجعي، جدير بالدفاع عنه، والعمل على تطويره وتوسيع رقعته، بدلاً من أن تتولى تقليص الرقعة هذه دولٌ تقتل شعوبها وتقمعها وتجهّلها. المنظومة التي حملت الأمل في شيء من السلام والازدهار والتقدم، تبدو اليوم في خطر محدق، ولا مغيث.

الوقفة الأولى كانت مع تغريدة الأمين العام للمجلس النروجي للاجئين، يان ايغلاند، وهو أيضاً رئيس فريق العمل المشترك بين الأمم المتحدة والمجموعة الدولية لدعم سوريا لشؤون الأعمال الإنسانية. فكتب ايغلاند في "تويتر" أن "الأمم المتحدة سلّمت روسيا والولايات المتحدة، الإحداثيات التي تمدها بها المستشفيات المدعومة من المنظمات غير الحكومية في إدلب والغوطة الشرقية، وبناء على طلب هذه المستشفيات. وذلك كجزء من نظام التنبيه، المفتقد في الحرب السورية، من أجل حماية قطاع الرعاية الصحية..". ومن الواضح أن الطيران الروسي، ومعه طيران النظام السوري، استخدما هذه الإحداثيات لقصف مراكز الرعاية الصحية في إدلب والغوطة، ما أدى إلى سقوط عدد كبير من المدنيين. الإحداثيات من هذا النوع، تعلنها المنظمات الدولية كجزء من إجراء روتيني لحماية هذه المواقع المدنية، على افتراض أن القوى التي تقوم بالقصف ستحترم حُرمَتها حكماً. والوقت نفسه، استمر إعطاء الإحداثيات لسبب ما زال غامضاً، وإن رجّح البعض أنه يعود إلى بيروقراطية السيستم الدولي، والتزامه الأعمى "بدفتر القواعد" لغاية تلقي أوامر مغايرة، فيما اعتبر البعض الآخر أنه ربما كانت هناك بقية من أمل لحماية المدنيين في الغوطة وغيرها.

الوقفة الثانية تمثلت في تسليط الضوء على بدء الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غويتيريس، تفكيكه لإحدى وحدات المنظمة الأممية. وهي الوحدة التي أسسها سلفه بان كيمون في العام 2014، كتطبيق عملي لتوقيعه على "مبادرة حقوق الإنسان أولاً" بأثر من انتقادات عنيفة للأمم المتحدة على "رد فعلها الفاتر" إزاء مقتل عشرات آلاف المدنيين على أيدي القوات المسلحة السريلانكية العام 2009. وحتى شهور قليلة مضت، كان تمويل هذه الوحدة من خارج موازنة الأمم المتحدة، وبدعم من النروج والدنمارك وبريطانيا، وكانت مكلفة بضمان مراعاة موظفي الأمم المتحدة، في المقرات وعلى الأرض، لمبادئ حقوق الإنسان في عملهم الإنساني والسياسي، من أجل "تشجيعهم على اتخاذ مواقف مبدئية، وخطوات عملية مدعومة بشجاعة أخلاقية، لمنع الانتهاكات الجدية واسعة النطاق".

ومن خلال إحدى لجان الموازنة في الأمم المتحدة، نجحت الصين، بالتعاون مع روسيا ودول أخرى معروفة بازدرائها لقيم حقوق الإنسان في أراضيها وخارجها، في صدّ طلب تقدم به غويتيريس لتمويل هذه الوحدة من موازنة الأمم المتحدة درءاً لاحتمال إلغائها. لكن الوحدة ألغيت أخيراً، وخسر العالم التفاتة إضافية نحو حقوق الإنسان، ولو فقط بالاسم.

أما الوقفة الثالثة، فكانت الأسبوع الماضي، عندما تمكنت بكين وموسكو من ردّ اقتراح مدعوم أميركياً، للاستماع إلى المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، زيد رعد الحسين، والذي كان يفترض أن يقدم عرضاً للانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان في سوريا، خلال جلسة رسمية لمجلس الأمن.

كانت الولايات المتحدة بحاجة إلى التصويت بموافقة 9 من أصل 15 دولة عضو في مجلس الأمن. لكن الجهود ذهبت سدى بعدما انشقت عن المجموعة الغربية الداعمة للاقتراح، الدولُ الإفريقية الثلاث ذات العضوية؛ غينيا الاستوائية، وإثيوبيا، وساحل العاج، التي امتنعت عن التصويت. وعُرِف من الضغوط ما مارسته الصين بضراوة على جمهورية ساحل العاج.

مصر، باكستان، روسيا، الصين، وغيرها.. كلها مؤثرة بقوة، اليوم، في المشهد الأممي، لا سيما في ما يخص قضايا حقوق الإنسان. لكن الصين، تحديداً، تبدو الأشرس، بل الأقدر راهناً على تقويض منجزات دولية عمرها أكثر من 70 عاماً. ذلك أن المساهمة الصينية في موازنة الأمم المتحدة، تصاعدت خلال السنوات الأخيرة. ولم يألُ دبلوماسيوها جهداً في الدفع باتجاه تخفيضات حادة في إنفاق المنظمة الأممية، لا سيما ما يتعلق منها بالوظائف المفوضة بصلاحيات حماية حقوق الإنسان، في مقرات الامم المتحدة وفي الميدان سواء بسواء. سعت بكين أيضاً إلى إلغاء الوظائف المرتبطة بمجالات حقوق الإنسان ضمن بعثات حفظ السلام. وهي التي تكاد تنجز "سوراً عظيماً" جديداً، يمنع الناشطين في مجال حقوق الإنسان وممثلي المنظمات غير الحكومية من التحدث في الجلسات الرسمية للأمم المتحدة، مشترطة عليهم، مثلاً، اعترافاً علنياً بسيادتها على التيبت.

والوقفة الرابعة، مقابلة مجلة "فوريس بوليسي" الأميركية، قبل أيام، مع بيتر ماورير، رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فور عودته من زيارة إلى الغوطة الشرقية. قال ماورير: "تدخل (الغوطة) فيسألك الناس إن كنت تحمل زجاجة مياه (للشرب). هذا لا يحدث في الكثير من المناطق. (في العادة) الناس يطلبون الطعام وأشياء أخرى كثيرة، لكن الوضع هنا (في الغوطة) ينحدر إلى الأساسيات الأوليّة".

منذ بدء الأزمة الإنسانية في الغوطة الشرقية، جاهد ماورير وفريق منظمته لإدخال المساعدات الطبية إلى المنطقة التي يحاصرها النظام. قد يمرر النظام، أو وكلاؤه، أكياس طحين أحياناً، ورُزم طعام، لكنه يحجب أشياء ضرورية كثيرة أخرى، أبرزها الأدوية الأساسية كالإنسولين. فيما المعارضة السورية، ومعها منتقدو أداء المجتمع الدولي، تتهم المنظمات الدولية بالتخلي عن مبادئها حينما "تتعاون" في عملها مع مؤسسات النظام السوري. ويخص المنتقدون بالذكر "الهلال الأحمر العربي السوري"، المعروف بارتباطاته الوثيقة مع النظام الأسدي، خصوصاً على مستوى قيادات هذه المنظمة، منذ أيام رئيس "الهلال"، الراحل عبد الرحمن العطار، وصولاً إلى خليفته المعيّن خالد حبوباتي.

هكذا يتغيّر العالم. باتت روسيا، المحكومة بالمافيات وعضلات بوتين، تؤثر في الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعبر أحد أبرز الاختراعات الأميركية المعاصرة: "فايسبوك". الصين ما عاد يكفيها طموحها الاقتصادي، تريد سيطرة سياسية عالمية، وطبعاً بمعايير سلطتها الاستبدادية. بعض الدول الإفريقية تريد التأثير نفسه فيما شعوبها جائعة، فتقتدي بـ"رفاق السوء" بدلاً من نماذج غربية مضيئة. المنظومة صار منظومات إقليمية، أو بالأحرى اللامنظومات.

حينما أسست الولايات المتحدة، بالتعاون مع بريطانيا وغيرها، المنظومة الليبرالية العالمية غداة الحرب العالمية الثانية، كان الهدف الأبرز هو ألا تتكرر الظروف التي أدت إلى حربين عالميتين في خلال 30 عاماً. وارتكزت هذه المنظومة على مبادئ حكم القانون، واحترام سيادة الدول وكُلّية أراضيها، وحماية حقوق الإنسان. وذلك، في العالم أجمع، وفي الوقت نفسه، بمشاركة مفتوحة وطوعية للجميع. وبُنيت تدريجياً منظمات لتعزيز السلام العالمي: الأمم المتحدة، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي، الخ. صحيح أنها منظمات تحتمل الكثير من النقد، وطاولتها شبهات عديدة، لكن هذا لا ينفي أهميتها والحاجة إلى وجودها مع إصلاحها بحسب مقتضيات العصر وتطور الوعي الإنساني لكرامة الإنسانية.

والحال، إن منظومة العالم الليبرالي لم تُبنَ فقط على المُثُل التي احتضنتها الديموقراطيات، بل أيضاً على القوة. فالدعم الحمائي للمبادرة آنذاك، ارتكز بشكل خاص على القوة الاقتصادية والعسكرية للولايات المتحدة، إضافة إلى شبكة تحالفات عبر أوروبا وآسيا، وأسلحة نووية ذات تأثير ردعي لعمليات عدوانية محتملة. تلك كانت القوة التي لم يتمكن الاتحاد السوفياتي من تقويضها. ولما انهار، بدت المنظومة أكثر صلابة وبأساً.

أما اليوم، فتتحسس الديموقراطيات أثر الشعبوية والقومية. يتفاقم تأثير الأحزاب الأكثر يمينية وتطرفاً في أوروبا. خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي نكسة للنخبة البريطانية والأوروبية عموماً. وفي أميركا، العدو الأكبر للإعلام والقضاء ومؤسسات إنفاذ القانون، هو الرئيس الأميركي نفسه.

مبدأ "أميركا أولاً" يقتل المنظومة، والعالم يعانيه، كما الأميركيون. هي الأزمة المتوالدة، منذ ما قبل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية المناخ في باريس، وصولاً إلى ما بعد الشكوك المحيطة بالالتزام الأميركي بحلف "الناتو" وتحالفات دولية أخرى. وفي المقابل، قلما يرد في الخطاب الأميركي الرسمي ذِكرُ الديموقراطية أو حقوق الإنسان. ثمة مسؤولية كبرى أيضاً على الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين والهند واليابان، في ما يفعلونه أو لا يفعلونه إزاء هذا كله. لكن أميركا، مؤسِّسة المنظومة الليبرالية في العالم، والأكثر استفادة منها أيضاً، تنسحب من دورها بعد اكثر من 70 عاماً على ريادتها هذه، مهما قيل في "امبرياليتها". أميركا تنتحر، وتقتلنا جميعاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها