الخميس 2018/03/22

آخر تحديث: 14:05 (بيروت)

جبران تحت المطر

الخميس 2018/03/22
جبران تحت المطر
الأم اللبنانية، في نظره، مجرد وعاء لـ"بذرة" الزوج (علي علوش)
increase حجم الخط decrease
لا حظوظ كبيرة لإقرار مشروع القانون الذي أعلنه وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، أمس (في يوم عيد الأم!)، ليجيز للمرأة اللبنانية المتزوجة من أجنبي إعطاء جنسيتها لأولادها، إلا إذا كان زوجها من مواطني دول الجوار.. أي "بالعربي"، إلا إذا كان الزوج فلسطينياً أو سورياً، "صَوناً" لحق العودة ودرءاً لبعبع التوطين.

والعُمر القصير المتوقع لهذه المبادرة التشريعية، الخطيرة والبشعة بكل المقاييس، لن يكون بفضل مناعة الدولة اللبنانية ومؤسساتها التشريعية إزاء قانون تمييزي وغير دستوري ومُنافٍ لأركان الأخلاق قبل المواطَنة. كما أن عدم إقراره لن يكون بفضل سُلَّم القيَم في المجتمع اللبناني، أو عافيته الديموقراطية، أو نجاعة الضغط الذي قد تمارسه منظّمات أهلية ومدنية. هو لن يمرّ، في الغالب، لأن سائر القوى السياسية/الطائفية ستعتبره موجهاً ضدها. ومع ذلك، فقد طرحه جبران كطُعمٍ انتخابي. وهذه الدعاية الانتخابية توازي مشروع القانون، رعباً. 

لعله صار ضرورياً تجاوُز كلمة عنصري، التي باتت لصيقة بخطاب "التيار الوطني الحر" عموماً، وباسيل خصوصاً، إلى الحد الذي يكاد يُفقدها قوتها الأدبية والتجريمية والتي ما زالت تهز جبالاً سياسية وحكومية وحقوقية في أنحاء العالم المتمتع ولو بالقليل من السويّة الثقافية والدولتية، رغم صعود اليمين المتطرف في الغرب. لكن "عنصري"، حتى مِن قَبل استهلاكها العَوني، فاقدة الصدى في لبنان، إلا في أوساط نخبة متنورة محدودة التأثير في مسار الشأن العام وفي الثقافة المعقّدة المهيمنة.

أما الغايات الطائفية لفكرة جبران، أي تجنيس عدد أكبر من المسيحيين بموازاة سد كل الأبواب التي قد تهب عبرها رياح تجنيس المزيد من المسلمين، فواضحة جداً، حظيت بضوء وفير ودراسات إحصائية تثبتها بالأرقام، ولعلها الداء الذي يكمن فيه الدواء للمقترَح الملوّث.

لذا، وبعد العنصرية والطائفية، يبدو الموضوع في حاجة إلى التفكيك من زوايا أخرى، "وطنية"، بدءاً من رؤية العَونيين – ومعهم الكثير من اللبنانيين – للمرأة اللبنانية، ووصولاً إلى الدلالات الانتخابية.

المرأة اللبنانية، في عينَي جبران، تنتمي إلى واحدة من فئات ثلاث: إما متزوجة من لبناني (ويا حبذا لو كان من طائفتها) وهذه عاقلة. أو متزوجة من أجنبي ليس سورياً وليس فلسطينياً، وهذه شاطرة. أو متزوجة من أحد مواطني "دول الجوار"، وهذه خائنة لشروط الاستقرار اللبناني. وفي كل الأحوال، المرأة/الأم اللبنانية هي مجرد وعاء لـ"بذرة" الزوج، ليس في أولادها شيءٌ منها، ولا من دمها ولا من هويتها أو كيانها أو وطنها. لا تحب، ولا تفكّر، ولا تختار. إن لم تُوفّق باللبناني، فحُكماً ستتزوج ذاك "الآخر" المتوافر، وإلا دخلت نفق العنوسة. تُنكح بداهةً، وتُنجب بحُكم الطبيعة التناسلية، مثل الأبقار والدجاجات. بل إنها، حين تتزوج سورياً أو فلسطينياً، تمسي فخّاً لمواطنيها، يجب حمايتهم منه. هي مطيّة "الغريب" الطامع في تجنيس أولاده منها، إن فَقَد الأمل في توطينه في هذه "السويسرا" التي نتنعّم بها. المرأة اللبنانية، لقمة سائغة لوحش من "دول الجوار"، بلا إرادة. أما إذا اقترفت مثل هذا الزواج، عن وَعي، فذنبها أكبر، وتستحق العقاب في أولادها، وفي عموم تفاصيل حياتها الفردية والأُسرية. إرادتها هذه غير جديرة بالاحترام قانوناً. كما أنها، بحسب منطق جبران ومناصريه، حين تزوجت هذا الأجنبي، كانت تعلم أنه لا قانون لبنانياً راهناً يسمح لها بإعطاء جنسيتها لأولادها. فإن كان الزوج فرنسياً أو أميركياً، فصفِّقوا لها لأنها تكون قد كسبت لنفسها ولأولادها جنسية محترمة، وكافئوها بجنسية لبنانية لأولادها، والخَير أعمُّ إن كانت مسيحية. وإن كان الزوج من "الجوار"، فعليها أن تعذرنا، القانون لا يحمي المغفلات. وإن اقتضت الحاجة "الجمالية" إلى مساواة الرجل بها، أي منعه من منح جنسيته لأولاده من سورية أو فلسطينية، فليكُن، سنصوغ اقتراح القانون بهذا الشكل، إذ ستبقى المحصلة الديموغرافية موزونةً بالمعيار العَوني المُختلّ.

ثم، هناك الانتشار اللبناني في العالم، والذي يُقدَّر تعداده بين 8 و10 ملايين. الوجه الآخر لمشروع قانون جبران، والثيمة الأساس في خطابه كوزير للخارجية. هؤلاء مدعاة فخر واعتزاز. مغامرون، مجتهدون، يعرفون من أين تؤكل الكتف، سواء حظوا بجنسيات دول المهجر، أم لا. وهُم ضمانة اقتصادية أساسية للبنان، منذ الحرب الأهلية إلى اليوم. تحويلاتهم المصرفية، واستثماراتهم العقارية والتجارية، فُرص العمل والتعليم – وبالتالي فرص التجنيس – التي يؤمنونها في الخارج لأقاربهم ومعارفهم، تزيدهم حلاوة، وتكللهم بأوسمة التميّز في الداخل. والأهم أنهم قوة انتخابية مكتومة. فأعيدوا إليهم، ولعائلاتهم، الجنسية اللبنانية. حتى وإن كان أولادهم لا يعرفون موقع لبنان في الخريطة. حتى إن كانوا لا ينوون العودة. حتى إن كانوا فقدوا اللغة والاتصال والاهتمام. وكل من يجد لنفسه أحفور جَدٍّ لبناني، يجب أن يعود لبنانياً.

حسناً، هذا حق نبصمُ عليه. لكن، ماذا عن أولاد اللبنانية، المولودين/القاطنين في لبنان، الذين يرتادون مدارسه وجامعاته، اكتسبوا لهجته ورأسماله الثقافي وأحياناً أمراضه، يكابدون مشقّاته، يدفعون مع أمهاتهم وآبائهم فواتيره المزدوجة وضرائبه وإيجارات مساكنه، يعلقون في ازدحام شوارعه وحروب زواريبه، ويتنفسّون نفاياته؟ وماذا لو عاملت دول الانتشار، اللبنانيين، بل واللبنانيين الذين تزوجوا من أجنبيات طمعاً في جنسياتهن أو حباً فيهن، كما يعامل لبنان أبناء اللبنانية المتزوجة من ابن "الجوار"؟ ماذا كانوا فعلوا أيام الحرب، عندما نزحوا زرافاتٍ زرافات؟ ماذا كانوا فعلوا خلال الأزمات الاقتصادية الممتدة منذ عقود؟ ولماذا تقوم القيامة ولا تقعد، كلما طردت إحدى دول الخليج عائلات لبنانية، فيستنفر الجميع لتهدئة الخطاب السياسي رأفةً باللبنانيين الكادحين الذين ظلمتهم أنظمة "مزاجية" لا تراعي "حقوقهم"؟

وأخيراً، وليس آخراً، إن كان مُصيباً تصوّر جبران عن عموم الناخبين اللبنانيين، لا سيما المسيحيين منهم، أي التصوّر الذي صاغ بموجبه مشروع القانون إياه كجزء من حملته الانتخابية، فهذه كارثة، ووصمة عار، ولو فاخَر بها مؤيدوه. وإن كان مخطئاً، ثم فاز في الانتخابات، فهذه كارثة أكبر، إذ تؤشر إلى نتائج محسومة سلفاً بديناميات لا تمتّ بصِلة إلى عملية انتخابية صحيحة. والصحيح أننا، كيفما قلّبنا الموضوع، سنقع على وجه كريه، وسنفقد لغة الكلام. لكن جبران، ومَن لفّ لفّه، يظنون السماء ممطرة.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها