الجمعة 2018/03/02

آخر تحديث: 14:02 (بيروت)

في معنى دفن فالح عبد الجبار في لندن

الجمعة 2018/03/02
في معنى دفن فالح عبد الجبار في لندن
كأن موت فالح عبد الجبار ذكّرنا مجدداً بالهزيمة
increase حجم الخط decrease
لن يُدفن فالح عبد الجبار في مسقط رأسه بغداد، وهو الذي غادرها هرباً من بطش صدام حسين العام 1978. لن يُدفن عبد الجبار في بيروت، المدينة التي اختارها منذ 15 عاماً مقراً لعمله ورصيفاً لحياته ومركزاً لأبحاثه وداراً لنشر كتبه.

سيكون مثواه الأخير (وفق رغبة أسرته) في لندن، المدينة التي لجأ إليها، واحتضنته جامعاتها ومراكزها البحثية، ومنحته جنسيتها ومواطنيتها.

"رحل" فالح عبد الجبار مرات كثيرة.. حين غادر بغداد شيوعياً مضطهداً، وحين غادر جبال حرب العصابات في كردستان طلباً للخلاص، وحين انشق عن شيوعيته سعياً إلى الصواب، وحين ترك لندن بحثاً عن عالمه العربي، وحين مات في بيروت التي خذله انطفاؤها.

ليس هذا مصيراً خاصاً، أي أن يخرج من مسقط الرأس منفياً، أن ينشق عن حزبه، أن يدرك باكراً أن الثورة هنا تخطفها الحروب الأهلية، أن بيروت ما عادت ملجأ رحباً للمثقفين العرب، وأن لا عودة إلى وطن غير متحقق. ليس مصيراً خاصاً أن يكون أبناؤك موزعين بين السويد وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وفي أي بلد بعيد عن الوطن الأول.

المنشقون "الحقيقيون" عن القبيلة القديمة والطائفة العنيدة والحزب الأبدي.. هم غرباء بلادهم وإن لم يهاجروا. الخارجون على أخلاق العائلة وعلى الإخضاع الديني وعلى الاستبداد السياسي.. هم "الأقلية" الوحيدة التي تستحق هذه الصفة.

المنفى وحده هو المصير المتاح لأمثال فالح عبد الجبار. فلا العراق الذي تخلص من الطاغية وسقط في دوامة الطائفية والتزمت الديني وابتلعه الفساد، ولا لبنان الذي باتت عاصمته واحدة من أربع عواصم تتفاخر إيران الخمينية بالهيمنة عليها، ولا دمشق التي قتلها نظام البراميل والغازات السامة، ولا القاهرة التي عادت إلى حضن الضابط العسكري.

في المرة الأخيرة التي التقينا فيها فالح عبد الجبار بأحد مقاهي بيروت، حازم صاغية وحسن داوود ومحمد أبي سمرا وشوقي الدويهي وأنا، كنا نتحسس سوياً عمق الخيبات المتوالية وقسوتها، وشعورنا بانصرام كل شيء ألفناه واعتقدناه راسخاً وبديهياً، أو مأمولاً وحتمياً، من الصحافة إلى القراءة والكتابة ووسائل تحصيل المعرفة، ومن الرهان على الثورات وعلى دروس التاريخ وما نظنه منطق الأشياء إلى إيماننا بقوة الثقافة ومثالات التحديث وحقائق العصر. كنا نتداول مع بهجة اللقاء حسراتنا الشخصية، وعلى الأرجح شعورنا المتفاقم بالغربة.

قبل أشهر، ذهبتُ إلى مقر عمله في "معهد الدراسات الاستراتيجية – بحوث عراقية" لتصوير مقابلة لصالح فيلم "بين هلالين" (عن النزاعات الإيرانية – العربية). كان محاطاً بخرائط تفصيلية للعراق، واحدة منها للتوزع الطائفي والمذهبي، وواحدة أخرى للتوزع الإثني ومناطق السيطرة الكردية والمناطق المتنازع عليها، وواحدة للتقسيم الإداري. بدا المشهد رمزياً لمصائر أوطاننا كخرائط ممزقة، خرائط الفوضى والصراعات الدموية، كأن ثمة استحالة لرسم خريطة بلون واحد وحدود واضحة.

استحالة الدولة الوطنية الديموقراطية هو ما ندركه من كتابيّ فالح عبد الجبار "الدولة والمجتمع المدني في العراق" و"الديموقراطية المستحيلة- حالة العراق".
 
في يوم وفاته، كنا هناك في مستشفى الجامعة الأميركية، كريم مروة وحسن داوود وأحمد علي الزين وطانيوس دعيبس وشوقي الدويهي ومحمد أبي سمرا، نقول بشيء من المبالغة أو الجدية أننا أيضاً نتمنى أن نُدفن هناك في لندن أو أي مدينة بعيدة، طالما أننا بتنا موقنين من غربتنا عن بلادنا ومنفيين منها بالرغم من إقامتنا فيها.

في تلك الليلة، سهرنا مع ذكرى الراحل.. ولا أدري كيف انجرفنا في كلامنا وصرنا نسرد ما عرفناه أو اختبرناه من حكايات التوقيف الاعتباطي الذي واجهه بعضنا أو أصدقاؤنا في مطارات ونقاط الحدود العربية، أخبار الاعتقالات التعسفية وحوادث الاغتيالات وقصص الاختفاء القسري في سجون المخابرات العربية. كأن موت فالح عبد الجبار ذكّرنا مجدداً بالهزيمة التامة لذاك المشروع المتخيل والمشتهى عن بلاد نحياها بكرامة وعدالة وحرية. كأننا رأينا في غياب عبد الجبار المفاجئ إشارة إضافية لانكسار ذواتنا، وأن ما ينتظرنا أمام جبروت الاستعصاء العربي هو القهر والمنفى والنسيان.   
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها