بين التماعته الأولى في عرض أول قدَّمَه في باريس 1952 فجعله نجماً فورياً، وبين عرضه الأخير العام 1995 (تاريخ موته المعنوي؟)، جرت مياه كثيرة وفوارة في نهر الموضة، وربما أكثر منها بين العرض الأخير ورحيله الجسدي الذي بدا استكمالاً لشيء تلاشى قبل موت المصمم. بالطبع، ما زالت دار "جيفنشي" مزدهرة ونجمة موضة عالمية، بل توسعت كعلامة معولمة في كل ما يرافق الزي النسائي، كحقيبة اليد والإكسسوارات، وخصوصاً العطر الذي نجحت عائلة جيفنشي في ترسيخ مكانتها في مضماره.
ولذلك النجاح المدوّي، ظلال أخرى. هناك رحلة طويلة متقلبة الأطوار، بين الفستان الأسود البسيط المنساب من كُمَّيه على الجسد الرومانسي للممثلة الأميركية أودري هيبورن في فيلم "فطور عند تيفاني"، وصرخات الموضة النسوية ما بعد الحداثية المحتفية بالوشم وبالكثير من الجِلد في ملاعب كرة القدم العالمية. اختزالاً، ارتحل الجسد الأنثوي من الرومانسيّة التي لم يكُفَّ جينفشي عن نسج أزيائها، إلى شيء آخر يمكن تسميته بـ"موضة الجمهور"، على غرار ما يقال في الميديا التي انتقلت من إعلام النخبة التي تقود من مركزها، إلى إعلام يتحكم فيه جمهور لم يعد يكتفي بالتلقي، بل صار متفاعلاً، خصوصاً عبر السوشال ميديا.
ليس الحديث عن العلاقة بين الميديا والثوب جزافاً. لندقق في بعض مشاهد التاريخ. في العام 1961، ظهرت أودري هيبورن في ثوب طويل بسيط، تستند أناقته إلى انهداله ملاصقاً للجسد الرشيق للممثلة منمنمة الوجه. يكشف أعلى الفستان، الكتفين والقليل جداً من الصدر. في ذلك الوقت، كانت سينما هوليوود هي مصنع خيال العالم بلا منازع، خصوصاً الخيال المنسوج على صور المرئي- المسموع في الشاشات البيضاء. وكانت تلك الحداثة، في تألقها الأقوى بعد الحرب العالمية الثانية، بل كانت الصعود بأضواء ساطعة لنموذجها بقيادة أميركية. وكانت أيضاً حداثة النخب التي تقود، وتطرح النماذج، مُراهنةً على قدرتها في الاستيلاء على العقول والمخيلات في أنحاء العالم. عقدت شاشة السينما علاقة خاصة مع جيفنشي، عبر علاقة خاصة مع هيبورن التي قدمّها نموذجاً للأناقة الرومانسية الكاملة: الفتاة الحالمة دوماً وأبداً بالبطل الذكَر. بلغت تلك العلاقة حد أن "مانوكان" هيبورن سيطر على مشاغل جيفنشي، بل إن وجهها المنمنم الحالم كان الوجه الخاص بأول عطر أطلقه المصمم، وغالباً ما يُنقل عن جيفنشي قوله: "كل الأزياء تليق بقوامها". ما يعني أن خياله عن الثوب يتطابق مع نموذج هيبورن.
وجمعت هيبورن سطوة السينما ونخبوية الحداثة، مع الخيال الرومانسي للمرأة وعنها، في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. وكانت أزياء جيفنشي رداءً يضم تحت انهدلاته تلك، الخيالات والسطوات كلها. وفي سياق مشابه، ألبَس المصمم الفرنسي نماذج نسوية للحداثة النخبوية الطابع، وهو ما كثّفته جاكلين كينيدي التي ارتدت زيّاً من تصميم جيفنشي خلال زيارة مع الرئيس جون كينيدي إلى باريس العام 1961.
وقبل رحيل جيفنشي، تغيّرت السينما. ظهرت بريجيت باردو بالبيكيني، في فيلم روجيه فاديم "وخلق الله المرأة"، ثم روّج جسدها للحرية الجنسية للمرأة في ستينات القرن العشرين، مع ملابس شملت الجينز المشدود وبنطلون الشارلستون. وفي "ثورة الشباب" العام 1968، أطاحت ثقافة التمرد بالمقاييس التي يستند إليها كل ما هو راسخ وكلاسيكي، بما فيها الأزياء. تراجع الفستان المنهدل وما يشبهه (مع استمراره بوصفه تعبيراً عما هو كلاسيكي، في النخب العالية). انتشر الجينز، والميني-جيب والميكرو-جيب، طارحاً الجِلد جزءاً من الرداء، ومكمّلاً ما فعلته جوارب النايلون من تحرير لحضور سيقان النساء كجزء من مشهدية الحياة اليومية. تغيّرت ذائقة المرأة تدريجياً، وتغيرت الحركة النسوية تدريجياً، وأحياناً بقوة.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها